سياسة التيه والتخبط الفرنسية
مطانيوس الصفدي
تشبه السياسة الفرنسية الحالية شخصاً يعيش في متاهة من متاهات الحدائق الكبيرة في قصر فيرساي, يبحث لاهثاً عن المخرج لكن دون فائدة, هذه السياسة التي تقوم على مجموعة من الأسس والتوجهات الرئيسية التي تنطلق من مكانة فرنسا ورؤيتها لذاتها وهي التي تدفع بها للشعور بنشوة التاريخ وتحيطها بنوع من الكبرياء والعظمة التي أخذت تتلاشى رويداً رويداً, خصوصاً مع تراجع مكانة فرنسا بفعل سياساتها الخارجية المتعالية والمتغطرسة في مناطق عدة من العالم, وعدم تعاملها مع هذه المناطق انطلاقاً من الخصوصية التي تتمتع بها رغم معرفتها بأدق تفاصيلها نتيجة للتاريخ الاستعماري الطويل, وعلى وجه الخصوص في دول مجالها الحيوي وحديقتها الخلفية المتمثلة بالضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط والمشرق العربي وفي القارة الافريقية, فضلاً عن معاناتها من تراجع هيبتها على صعيد القارة الأوروبية بفعل التخبط في سياستها الخارجية نتيجة التوجهات الفرنسية لإتباع سياسة خارجية مستقلة تارةً, وتابعة للولايات المتحدة الأمريكية تارةً أخرى خصوصاً مع إدراك الأخيرة لعقدة النقص الفرنسية فكان نهج تعاملها معها ومع بعض الدول الأوروبية يقوم على إستراتيجية صناعة الوهم, حيث تقوم بإيهام هذه الدول بأنَّها سمكة كبيرة في مستنقع صغير إلا أنَّها وبالواقع سمكة صغيرة في مستنقع كبير محكوم بالسياسات الأمريكية وترتيباتها الأمنية المتمثلة بحلف شمال الأطلسي ومظلته.
وقد عكست زيارة بايدن الأخيرة إلى فرنسا في ذكرى إنزال النورماندي ذلك, كما أنَّ هناك عدداً من التصريحات حول هذا الموضوع، فضلاً عن حرب غزة ووجود أصوات كثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية تنادي بإيقاف الحرب. وما المراوغة الفرنسية في المنطقة الأوروبية إلا نوع من تأكيد الدور الدولي لها, هذا الدور المحكوم بنزعات صناع القرار فيها ورغباتهم وانصياعهم للسياسات الأمريكية في أحيان كثيرة, فحتى الحكم الاشتراكي في فرنسا كان محكوم عليه بالتبعية للضفة الغربية من الأطلسي, وما مناورات فرانسوا ميتيران إلا لدليل فاضح على ذلك.
وبتتبع التطورات السياسية المحيطة بالجمهورية الفرنسية، يمكن استنتاج تراجع المكانة الفرنسية في مناطق عدة فضلاً عن تحجيم دورها خصوصاً في مناطق نفوذها السابقة في أفريقيا وأوروبا وتراجع دورها في انتهاج سياسة مستقلة داخل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وافتقادها للدور الذي يدفعها لأخذ زمام المبادرة في بعض الأحيان.
فرنسا والبحث عن الهوية
عمل الساسة الفرنسيون المتعاقبون على منصب الرئاسة لإيجاد نهج خاص بهم مرتبط بتوجهاتهم بعيداً عن النهج الذي رسمه الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول, إلا أنَّهم عادوا إلى الديغولية التي ترتكز على الدور المستقل لفرنسا في محيطها الأوروبي وممارسة دور بناء في الشرق الأوسط بعيداً عن إملاء السياسات من الضفة الأخرى للأطلسي، فرفع ديغول شعار أوروبا من الأورال إلى الأطلسي, إضافة لعدم الانصياع للولايات المتحدة الأمريكية والانسحاب من الجانب العسكري في حلف شمال الأطلسي. والمفارقة أن نهاية حقبة جاك شيراك، وبداية فترة نيكولا ساركوزي شكلت افتراقاً مع هذا النهج، فـ ساركوزي حاول إيجاد مسار جديد وقد أورث خلفاؤه واقعاً مختلفاً في محاولة منه لإبراز الدور الفرنسي على الصعيد العالمي, واستمر ايمانويل ماكرون على منوال ساركوزي في إيجاد نهجه الخاص.
واقع السياسة الفرنسية
لقد فشلت السياسة الفرنسية في تحقيق مكانة لفرنسا في ظل التخبط السياسي لإيمانويل ماكرون وتحركاته في أكثر من اتجاه دون القدرة على صياغة سياسة فرنسية متكاملة، وهو ما دفع لمحاولة تصدير الأزمات الداخلية وخصوصاً أزمة الهوية الاجتماعية إلى الخارج في ظل الاحتجاجات المتصاعدة، وفشل صانع القرار في تحقيق تطلعات النخبة السياسية في إعادة مكانة فرنسا أوروبياً، وملأ فراغ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد ظهر الدور الألماني جلياً في لعب دور بعد أحداث السابع من تشرين الأول /2023/ في فلسطين المحتلة. هذا الفشل مهد الطريق للعدو التقليدي لفرنسا المتمثل بألمانيا لملأ الفراغ وأخذ زمام المبادرة خصوصاً مع عجز الفريق الحاكم في فرنسا من تحقيق مكاسب اقتصادية تنعكس على الداخل في تحسين جودة الحياة, وعدم الإصغاء للمطالب المعارضة لرفع سن التقاعد، الأمر الذي ستكون نتائجه سلبية على الحزب الحاكم في أي انتخابات، وهو ما حدث فعلاً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي عكست تململ الشارع الفرنسي من سياسات ماكرون وتخبطاته.
فالجمهورية الفرنسية اليوم تعيش أزمة البحث عن الذات بين التاريخ الاستعماري والضغوط لانسحابها من أفريقيا, وبالمقابل فهي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان هذا الادعاء الذي يحمل ازدواجية وبعيد عن الحقيقة, فهي تسعى اليوم للبحث عن مكان وموطئ قدم لها في محاولة للتجاوب مع السياسة الأمريكية.
لكن صفوة القول أنَّ فرنسا تعاني من أزمة بنيوية في قيادة الاتحاد الأوروبي وأخذ مكانة دولية كما كانت في السابق, فالرئيس الفرنسي قام بجولات متعددة بعد الحرب الروسية- الأوكرانية في محاولة لأخذ دور دولي سيما في تقربه من الصين ومبادرتها للحل وقيامه بزيارة موسكو التي ظهر فيها بمظهر المستجدي لدورٍ فاعلٍ حفظاً لماء وجه فرنسا، إلا أنَّ هذه المحاولات لم تسهم إلا بتعرية ضعف القيادة الفرنسية، وهو بالإضافة لذلك يمارس المكر السياسي مع الصين وروسيا من خلال زيارته إلى منغوليا في مسعى لنسج تحالفات مع حديقتهما الخلفية وما دعوته لتسليح أوكرانيا مؤخراً ومحاربة روسيا إلا شكل من أشكال الجهل بالتاريخ وعدم استيعاب للجغرافيا السياسية والتحولات الاستراتيجية.
ونستنتج أنَّ تهور السياسة الفرنسية أدى إلى مجموعة من النتائج السلبية تتلخص فيما يلي:
1- عدم قدرة الدبلوماسية الفرنسية على طرح مبادرتها بمعزل عن الضغوطات الخارجية التي تعيق هذه الدبلوماسية وتعمل على جذبها لتكون أداة متقدمة بيدها في مواجهة خصومها.
2- السعي لممارسة دور استعماري في مناطق نفوذها السابقة وبشكل خاص أفريقيا والمشرق العربي.
3- الانقسام على مستوى النخبة السياسية في فرنسا والتململ من سياسات ايمانويل ماكرون, وتجسد ذلك بخسارة حزب ماكرون في الانتخابات التشريعية الأخيرة.