عاش.. للمعرفة!
حسن حميد
عاش حياته كلّها وقفاً على القراءة والكتابة والإبداع والتأليف والتحقيق والترجمة، ولم يشغله شاغل عن ذلك كله طوال 85 سنة، عاش معظمها خارج البلاد المصرية. إنه الفيلسوف عبد الرحمن بدوي الذي ما عاد لقب “دكتور” صفة تعرف به، فقد رحل عن حوالي 200 كتاب خوّضت في جميع أشكال المعرفة التي تنسب إلى الفكر والفلسفة والآداب والفنون، وعرف، بالإضافة إلى لغته العربية، ثماني لغات أجنبية قراءة وكتابة ونطقاً (الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، واللاتينية، والإيطالية، واليونانية، والفارسية)، وقد تعلمها من أجل أن يقرأ بها نصوص أهلها، ونقل عنها مؤلفات بديعة ومهمّة في جميع فنون التأليف والإبداع.
ولد عبد الرحمن بدوي في قرية شرباص- دمياط، عام 1917، أبوه عمدة القرية، وهو الابن الخامس عشر من بين إخوته وأخواته، وعددهم 21 شقيقاً وشقيقة، نجح في الثانوية العامة، وكان ترتيبه الثاني على جميع طلاب مصر، وانتسب إلى جامعة الملك فؤاد، آنذاك، ليدرس الفلسفة، وقد وعى أساتذته، منذ سنته الجامعية الأولى، نبوغه، ومنهم د. طه حسين الذي أرسله إلى المنيا وإيطاليا ليدرس اللغتين الألمانية والإيطالية، وهو لم يزل طالباً في الجامعة، وقد أتقنهما خلال مدة أربعة شهور.
ناقش رسالتيه الماجستير والدكتوراه اثنان من أهم أساتذة الجامعة آنذاك، وهما: د. طه حسين، ود. مصطفى عبد الرزاق، وقد قال د. طه حسين عقب مناقشة رسالة الدكتوراه سنة 1944 واصفاً عبد الرحمن بدوي: “أول مرة نشاهد فيلسوفاً مصرياً”.
درس في الجامعات المصرية سنوات عدة، ثم مضى في غربة طويلة ليدرس في جامعات عربية، الكويت، ولبنان، وليبيا، وأخرى أجنبية، طهران، وباريس، ثم عاد قبل أربعة شهور من وفاته إلى مصر، ليموت ويدفن فيها.
عبد الرحمن بدوي رجل علم وثقافة وفكر، نقل إلى اللغة العربية أهم الأفكار الفلسفية في عصره، أعني القرن العشرين الماضي، وإن كان اهتمّ كثيراً بالفلسفة الوجودية التي أسّسها الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (1889 – 1976)، لكنه اهتمّ أيضاً بالثقافة الإغريقية فنقل عنها الكثير من الكتب، ومثل هذا الاهتمام كان اهتمامه بالثقافة الألمانية، فهو من نقل الأعمال الأدبية لغوته (1749 – 1832) وشيللر (1759 – 1805)، والفلسفة الألمانية عموماً.
عاش سنوات حياته الأخيرة مدرّساً في الجامعات الفرنسية، وكان صاحب حضور في الجامعة، ودور النشر، والمؤتمرات والملتقيات الثقافية، أما سبب عودته إلى مصر فيعود إلى أنه عاش وحيداً، لم يعرف الزواج، ولم يعرف الأصدقاء أيضاً، لقد وقع في الشارع، فأخبر أحد رجال الشرطة الفرنسية موظفاً في السفارة المصرية في باريس، بأنّ أستاذاً مصرياً وقع في الشارع مغشياً عليه، وحين أفاق، أخبرهم بأنه فيلسوف مصري، إثر ذلك الحادث.. نقل إلى مصر.
كتب عبد الرحمن بدوي، عام 2000، مذكراته، وجاءت في جزأين، وصفحاتها حوالي الـ 800 صفحة، وفيها استمرارية لآرائه العاصفة تجاه كلّ من قابلهم أو عايشهم أو تعرّف إليهم، أو قرأ لهم من أدباء وأساتذة الجامعات والفكر في مصر، وقد طالهم جميعاً بالقدح والثلم، ولم ينجُ من ذلك أساتذته الذين درسوا في الجامعة، فقد وضع الجميع في غربال النقد، ومنهم د. طه حسين الذي مسّه بكلام كبير، ومنهم أيضاً أحمد أمين، وعباس محمود العقاد، وزكي نجيب محمود، ومحمد عبده، وعلي الجارم، ولم يسلم من نقده طلاب الجامعات المصرية الذين زاملهم، فنعتهم بنعوت قاسية.
أحسّ عبد الرحمن بدوي بغربة في الديار المصرية، لذلك عاش لنفسه، فلم يصادق أحداً، ولم يسعَ إلى زواج، كان شاغله الأول والأخير هو القراءة في المكتبات العامة والتأليف والكتابة والترجمة والتحقيق، وقد زادت غربته حين خرج من مصر، فهو لم يخالط أحداً، ولم يسعَ إلى عقد صداقات مع أحد، أو إقامة علاقات، من أي نوع، مع الآخرين، وقد وصف نفسه بأنه كائن بري، وخشن، ولا يحسن المداهنة أو الملاطفة، وأن العاطفة مرض واجب العلاج.
وقف عبد الرحمن بدوي خلال حياته العلمية، عند فلاسفة الإغريق وعند أعلام الفلسفة الإسلامية، وأعلام الفلسفة الغربية الحديثة، وهذه الوقفات كانت مهمّة جداً، فقد شرحها ولخّصها ونقدها، ولعلّ وقفته عند ابن رشد كانت مهمة جداً، كذلك وقفته الطويلة عند ابن خلدون.
عبد الرحمن بدوي، عاش للعلم، والثقافة، والمعرفة، فهو رجل لا شبيه له في هذا السلوك، ومعرفته بالفلسفة والأديان والآداب والفنون مدهشة وشاسعة جداً، أما كتبه فهي علوم راشدة لأهم الأفكار التي أنتجها العقل البشري من أجل أن تعرف الدنيا قيمة العقل، وزهوة المدنية.
hasanhamid55@yahoo.com