محمد قجة عاشقُ حلب وباحثُها الكبير
أمينة عباس
لم يأتِ وصفُ الدكتور نزار بني المرجة للباحث محمد فجة بأنه “عاشق حلب وباحثها الكبير” إلا تعبيراً دقيقاً عن مسيرة هذه الشخصية التي تُعدّ آخر مؤرخي حلب وحراس تراثها ومعالمها التاريخية الأمين الذي كان يردد: “أنا متجذّر في مدينة حلب التي ولدَت مع التاريخ”.
كلام د. بني المرجة جاء خلال المحاضرة التي ألقاها، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي بـ”أبو رمانة” بإشراف أ. عمار بقلة مدير المركز، تأكيداً للخسارة الكبيرة التي منيت بها سورية عموماً، وحلب خصوصاً برحيل قجة، يقول بني المرجة: “كان ارتباطه العاطفي غير عادي بالتاريخ، يحمل إخلاصاً نادراً لتاريخ وتراث مدينته حلب التي كان يعتز بها ويصفها بأنها متحف حيّ يمثل التاريخ البشري، ويبلغ حبه لمدينته حلب درجة التصوف، فيكتب بحثاً مطولاً بعنوان “حلب في عيون الشعراء” يضمّنه قصيدة له بعنوان “قبلة حنان على ثغر الشهباء” يقول فيها:
أهواك يا حلب الشهباء فاقتربي
وعانقيني لأرقى فيك للشهب
إن فاخر القوم في أرض وفي نسب
إذاً لفاخرت أني اليعربي الحلبي
ويضيف د.بني المرجة: “عاش قجة طفولته وصباه المبكر في دار عربية كبيرة يعود عمرها إلى سنة ۱۱۱۰ وتضم قاعات غنية بالزخارف الخشبية ومكتبة تضم بعض الكتب التراثية المهمة التي أتيح له أن يقرأها وهو في المرحلة الابتدائية مثل سيرة عنترة بمجلداتها الثمانية وسيرة الملك الظاهر بيبرس بأجزائها الثلاثين والمعلّقات وديوان المتنبي وتغريبة بني هلال وسيرة الأميرة ذات الهمة، وغيرها، ما أكسبه ذخيرة تراثية وذائقة تاريخية منذ نعومة أظفاره”.
ويتوقف بني المرجة عند مؤلفات قجة عن حلب ككتابه الذي أصدرته محافظة حلب “قلعة حلب.. صور من التاريخ” فيقول: “زاد من روعة الكتاب على قلة عدد صفحاته تلك الصور الجميلة لقلعة حلب وأبرز معالمها التاريخية، في حين تناول في أحد أبحاثه الحياة الفكرية والأدبية في عهد الملك الظاهر غازي الأيوبي والمنشور في العدد الممتاز من مجلة “المعرفة” السورية 2006 والذي تمّ تكريسه للاحتفاء بحلب عاصمة الثقافة الإسلامية، وما قدمه قجة كان يمثل جهداً آخر غير مسبوق في تاريخ حلب، ذلك أن الحديث عن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يعني الحديث عن فترة من الازدهار عرفتها مدينة حلب أواخر القرن السادس الهجري- الثاني عشر الميلادي، ذلك الازدهار الذي شمل الجوانب السياسية والاقتصادية والعمرانية والثقافية، وجعل حلب مركزاً فائق الأهمية على الصعيدين السياسي والعسكري خلال الحروب الصليبية العدوانية ومركزاً عمرانياً وثقافياً استقطب عدداً كبيراً من المؤرخين والمفكرين والأدباء ورجال العلم، ومردّ ذلك كما قال محمد قجة أن بلاط الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي في حلب كان مجالاً رحباً لرجال الفكر والأدب والشعر، حيث عاشت حلب معه واحدة من أروع فترات ازدهارها الفكري والاقتصادي والثقافي الذي تفخر بها عبر العصور”.
ولم تقتصر اهتمامات الباحث محمد قجة على حلب وتاريخها بل تجاوزتها لتبلغ درجات عالية من الاهتمام بمراحل ومفاصل تاريخية مجيدة في حياة الأمة، يقول بني المرجة: “نلحظ ذلك بوضوح في سعيه للبحث في أمجاد الحقبة العربية في الأندلس وذلك عبر عدد غير قليل من كتبه وأبحاثه المهمة، وأبرزها “طارق بن زياد” و”عبد الرحمن الداخل” و”عبد الرحمن الناصر” والمنصور الأندلسي” و”معارك عقبة في المغرب”، وكتابه القيّم “محطات أندلسية” الذي ضمّنه دراسات في التاريخ والأدب والفن الأندلسي والتي تشكل بمجموعها بوحاً فريداً نظراً للمساحة البارزة التي تشغلها الأندلس في ذاكرتنا العربية والتي تتمثل برأي محمد قجة بصور شتى، فيها الأسى والمرارة والفخر بأمجاد مضت والهاجس التاريخي الذي ما فتئ يتكرر في حياتنا العربية منذ سقوط الأندلس وقد ربط قجة في الكتاب بين الأندلس وحلب في القرنين السادس والسابع للهجرة وبين حضارة العرب في المشرق وحضارتهم في الأندلس، مشيراً إلى روابط وأواصر ملموسة كان فيها لمدينة حلب دور مهم ومشهود في الكثير من المجالات.
يُذكر أن د.محمد قجة من أكثر الباحثين والدارسين للتاريخ العربي والإسلامي أهميةً، وهو مفكّر وشاعر ولِد في العام 1939 في مدينة حلب لعائلة عريقة، وكان الكتاب مدخله الأول لنهل العلم والمعرفة من خلال دروس تحفيظ القرآن، ومن ثم تدرج في تحصيله العلمي متنقلاً بين حلب ودمشق والجزائر، ونال شهادة دراسات عليا في تاريخ الأندلس وبلاد الشام من جامعة الجزائر، وإجازة في الأدب العربي، ومؤهلاً تربوياً من جامعة دمشق قبل أن ينخرط في الحقل التربوي بين مدرّس للّغة العربية ومدير لعدد من المدارس الثانوية الحكومية والخاصة، وفي عام 1974 انتسب إلى جمعية العاديات التي أسست في عام 1924 وهي أقدم جمعية في العالم العربي تهتم بالتراث والآثار، وفي عام 1994 انتُخب رئيساً للجمعية وظل رئيساً لها حتى رحيله، لكن المحطة الأبرز كانت عمله مديراً لثانوية المأمون العريقة في حلب وهي المدرسة التي درس فيها وشاءت المصادفة أن يكون مديراً لها في الذكرى الماسية لتأسيسها..
تسلم قجة مناصب عدّة منها: الأمين العام لاحتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، ورئيس لجنة السجل الوطني للتراث الثقافي غير المادي، ورئيس مجلس إدارة جمعية العاديات السورية منذ عام 1994 وهو عضو اتّحاد الكتّاب العرب ـ جمعية الدراسات والبحوث وعضو في لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية.