خضوع ألماني خطير
عناية ناصر
أعلنت إدارة بايدن على هامش قمّة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في واشنطن، أنه اعتباراً من عام 2026، ستنشر الولايات المتحدة أسلحة جديدة في ألمانيا قادرة على ضرب أهداف يصل مداها إلى 2700 كيلو متر، ووافق المستشار الألماني على هذا النشر المستقبلي أثناء وجوده في واشنطن في بيان مشترك، لكنه لم يتمّ إجراء أي مناقشة مسبقة حول هذه الصواريخ والصواريخ المجنحة الأمريكية الجديدة، سواء في البوندستاغ أو في لجنة الشؤون الخارجية، ولم يكن هناك أي نقاش حول هذا الموضوع في المجال العام الألماني الأوسع.
إن هذا التطور هو تطور مثير للجدل إلى حدّ كبير، خاصةً وأن أنظمة الصواريخ المعنية مجهزة للوصول إلى أهداف في عمق روسيا، وفي هذا الخصوص أعلنت روسيا عن نيتها الردّ وفقاً لذلك.
في الواقع، يشكّل الردع المزعوم للولايات المتحدة تهديداً هائلاً لأمن سكان ألمانيا، إضافة إلى أن الولايات المتحدة تتعامل مع ألمانيا وكأنها ليست أكثر من حاملة طائرات. والواقع أن الخضوع الذي تقبل به الحكومة الفيدرالية وتسمح به للقرارات التي تتخذها الولايات المتحدة أمر مخيف حقاً، فعندما تولّى المستشار منصبه، تعهد بحماية الشعب الألماني من الأذى، ولكن بالسماح للولايات المتحدة بوضع صواريخها في ألمانيا، أصبح استعداده للوفاء بهذا الالتزام موضع شك!.
إن نشر الصواريخ بعيدة المدى المخطّط له ليس سوى مثال واحد من سلسلة من القرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة في محاولة لدفع ألمانيا إلى خط المواجهة في صراعها مع روسيا، ومن الأمثلة الأخرى قيام الولايات المتحدة بممارسة الضغوط على برلين لشحن دبابات ليوبارد إلى أوكرانيا، وهو ما أدّى إلى ردّ فعل قوية من قبل روسيا.
وفي الوقت نفسه، أنشأت بعثة حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا مقرّها في مدينة فيسبادن الألمانية، بالقرب من المركز المصرفي في فرانكفورت أم ماين، ومن المؤكد أن نشر صواريخ بعيدة المدى في ألمانيا تحت قيادة الولايات المتحدة، ومن المرجح أن يتمّ تمويل البنية الأساسية المرافقة جزئياً من قِبَل دافعي الضرائب الألمان، من شأنه أن يؤدّي فقط إلى تفاقم الموقف.
إن هدف واشنطن من وراء هذه العملية واضح، وهو تقريب ألمانيا من المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا، أو على الأقل إجبار برلين على إنفاق حصة أكبر من مواردها على الحرب بالوكالة مع موسكو. ويبدو أن واشنطن حسبت أنه إذا أبقت ألمانيا روسيا مشغولة في أوروبا، فيمكن تحويل الجزء الأكبر من قدرتها العسكرية إلى جهودها لاحتواء الصين في شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
يجب التأكيد على أن القرار الحالي بنشر صواريخ أمريكية في ألمانيا لم يكن ممكناً إلا من خلال الانسحاب الأحادي للولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى في عهد الرئيس الأمريكي ترامب في عام 2019، حيث زعمت الولايات المتحدة أن روسيا انتهكت شروط المعاهدة. ومنذ عام 1987، حظرت معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى تصنيع ونشر جميع الصواريخ متوسطة المدى التي تطلق من البر والقادرة على ضرب أهداف في مدى يتراوح بين 500 و5500 كيلو متر.
ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل يشكّل نشر الولايات المتحدة الحالي للصواريخ في ألمانيا أحد مكونات إستراتيجية التصعيد المخطّط لها منذ فترة طويلة، والتي كانت مسؤولة عن انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى وتوسع حلف شمال الأطلسي شرقاً؟.
إن هذا التفسير يتفق مع حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة بدأت بالفعل في تطوير صواريخ جديدة متوسطة المدى قبل إنهاء معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، ففي وقت مبكر من عام 2017، تمّ إنشاء فرقة عمل متعدّدة المجالات في فيسبادن، لأغراض الاختبار فقط. ويمكن اعتبار إعادة تنشيط القيادة المدفعية الأمريكية رقم 56 في عام 2021 خطوة تحضيرية نحو التصعيد. فخلال الحرب الباردة، كانت هذه القيادة مسؤولة عن صواريخ بيرشينغ الأمريكية، والآن ستشرف على عمليات النشر الأمريكية الجديدة بعيدة المدى.
إن خطط الولايات المتحدة اليوم ليست مطابقة لإستراتيجيتها السابقة في الحرب الباردة. ومع ذلك، فإن فترة التحذير الأقصر التي تستلزمها الصواريخ الأسرع من الصوت الجديدة، على سبيل المثال، تعني أن عمليات النشر الأمريكية المعاصرة تختلف عن الصواريخ متوسطة المدى المتمركزة في ألمانيا في العصر السابق.
وليس من المستغرب أن تنظر روسيا إلى أنظمة الأسلحة الجديدة باعتبارها تهديداً كبيراً، كما أن سرعة الصواريخ الأسرع من الصوت الجديدة على وجه الخصوص تخلق وضعاً أكثر خطورة بكثير مما ساد أثناء الحرب الباردة، بما في ذلك خطر أكبر محتمل للعواقب التي لا رجعة فيها بسبب الإنذارات الكاذبة. وعلى هذا النحو، فإن نشر الولايات المتحدة للصواريخ بعيدة المدى يزيد من خطر الحرب النووية بشكل هائل، وسط سباق تسلح نووي جديد جارٍ بالفعل.
المشكلة المركزية التي تواجه جميع حلفاء حلف شمال الأطلسي، الأعضاء الرسميين في الحلف وأولئك المشمولين من خلال الاتفاقيات الثنائية هي: كما حدث مع الممالك التابعة على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية قبل ألفي عام، يجب على الحلفاء التنازل عن سيادتهم وإخضاع سياستهم الخارجية للمصالح الأمنية للهيمنة، ولكن في الوقت نفسه، يظلّ الوهم قائماً بأن مصالحهم السيادية تخدمها بالفعل مثل هذه الترتيبات مع الولايات المتحدة، ولو باعتبارها منفعة جانبية، ولكن هذا التمني أصبح من الصعب على نحو متزايد أن يستمر. وبدلاً من تعزيز الدبلوماسية، سار حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي على خطا واشنطن، وحاولوا إملاء ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به على البلدان الأخرى. ولكن نظراً للصعود الاقتصادي السريع لدول مجموعة البريكس، يبدو أن هذا النهج الاستعماري الجديد محكوم عليه بالفشل.
وفي ألمانيا، لا بدّ أن يتحول التركيز الآن إلى تعبئة وحشد المجتمع ضد نشر الصواريخ الأمريكية داخل حدودها. ولأن هذا القرار يثير التساؤلات حول أمن السكان الألمان، فلا بدّ أن يتمّ إجراء استفتاء عاجل لتحديد ما إذا كان النظام السياسي يقبله، والأمر الأكثر إلحاحاً هو إيجاد إجابة للسؤال العام حول كيفية الدفاع عن السلام والسيادة الديمقراطية في ألمانيا اليوم، نظراً لاستعداد الولايات المتحدة الواضح لتعريض حلفائها لمثل هذا الخطر الجسيم والذي لا تُحمد عقباه.