اقتصادصحيفة البعث

الكواليس تشي بـ “دور” حيتان السوق الكفيل بامتصاص جميع البرامج الإصلاحية

دمشق – حسن النابلسي

ثمة إجراءات نعتقد أن على سلطتنا التنفيذية اتخاذها في حال إصرارها وتمسكها بالقطاع الخاص وقناعتها بسيرورة عمله خاصة فيما يتعلق منها بتأمين المواد والسلع الأساسية للسوق المحلية، لعل أولها بعد السماح لكل راغب بالاستيراد تطبيق معايير صارمة للمستوردات وتدقيق إجازات الاستيراد لتحديد الأسعار بالنسبة للمستهلك وفقاً لسعر الاستيراد الحقيقي، إلى جانب تفعيل دور هيئة المنافسة ومنع الاحتكار، وأخيرا وليس آخراً استئصال كل بؤر الفساد ورموز الصفقات التجارية المشبوهة، وعندها يمكن بالفعل أن يكمل قطاعنا الخاص نظيره العام، على أن يعطى للأخير مرونة تمكنه من المناورة في ظل ما يشهده اقتصادنا الوطني من خناق مطبق.

ولا يمكن لأي اقتصاد وطني أن يمتن أواصره ويحقق أعلى معدلات نموه دون أن يتضافر كلاً من قطاعيه العام والخاص في وحدة متكاملة، لا يطغى فيها أو يتعدى إحداهما على الآخر، ليستطيعا السير بتناغم وانسجام بما يحقق المصلحة العامة، وذلك من خلال أن يقوم الأول بالتخطيط الاستراتيجي ضمن رؤية واضحة تحدد مسار الثاني ويشرف عليه ويضبط حركته ونشاطه الاستثماري والتجاري – لاسيما بعد حصوله على الكثير من المزايا التشجيعية – حتى لا يخرج عن القوانين والأنظمة النافذة، ولا يقع -في بنفس الوقت- في مطب الطفل المدلل ويتحول تدريجياً إلى طفيلي جبان، وبذلك يكون عمل كلا القطاعين متوازناً بموجب معادلة تخول كل قطاع أن يقوم بدوره المنوط به.

تجاوزات

لكن هذه المعادلة في سورية تفتقد في كثير من الأحيان لتوازنها واستقرار كفتي ميزانها المتأرجحتين يميناً ويساراً دونما الأخذ بعين الاعتبار بما سيحققه كل طرف، ما يتمخض عن ذلك تجاوزات من العيار الثقيل، ليس أولها فتح أبواب الرشاوى والدفع من تحت الطاولة وفوقها، وليس آخرها حالات الاحتكار الكبرى وما جلبته من أرباح تقدر بالمليارات وليس بمئات الملايين حسب ما أكده بعض العارفين بخفايا الصفقات المشبوهة.

ضحية كبرى

هذا الوضع غير الصحي الذي أضاع – وسيضيع في حال استمراره – أموالا بأرقام فلكية على الخزينة العامة من جهة، وألحق الضرر بالمستهلك (وهو الضحية الكبرى) جراء ما اقترفه ويقترفه حيتان السوق المحلية، ما حدا ببعض الغيورين على المصلحة العامة بالمناداة إلى إعادة النظر بالدور الذي حظي به القطاع الخاص ونتج عنه من أضرار لامست لقمة عيش المواطن من جهة استيراده للمواد الأساسية اليومية خاصة الغذائية منها، ويرى هؤلاء الغيورون أن دواعي المصلحة العامة تقتضي أن تسحب الدولة البساط من تحت القطاع الخاص الذي لم يكن أهلاً في مهمته وتكامله مع نظيره العام، وأن تأخذ الدولة دوره باستيراد المواد والسلع الأساسية، وإن كان ذلك على حساب نهج اقتصاد السوق الذي اعتمدناه سبيلاً لاقتصادنا الوطني، خاصة وأن الدولة لديها إمكانيات كبيرة للقيام بذلك من خلال مؤسساتها العامة والمتخصصة، فبإمكان مؤسسة عمران أن تتولى تأمين مواد البناء بأسعار منافسة وجودة عالية، والمؤسسة السورية للتجارة قادرة على تأمين المواد الغذائية الأساسية اليومية بطريقة تراعي وضع المستهلك المادي والاجتماعي، وكذلك المؤسسة العامة للتجارة الخارجية تسد حاجة السوق من الأدوية الإستراتيجية التي لا تُصنّع محليا وغير ذلك مما له علاقة بحياة المواطن وحاجياته الأساسية، وبذلك تكون قد راعت مصلحة المستهلك وحالت دون وقوع تجاوزات قطاع آثر مصلحته على المصلحة العامة.

تواطؤ

لكن في المقابل يرى البعض أن القطاع العام له تجاوزاته التي لا تنتهي من تواطؤ بعض المتنفذين مع الجشعين من التجار، وإن تقليص دور القطاع الخاص ليس حلا يستطاب به، ما يعني ضرورة التوصل لصيغة توافقية تضبط إيقاع العمل، فلا الخاص يخرج على القوانين والأنظمة، ولا العام يغرق في تعقيدات روتين وبيروقراطية معاملات وعقود الاستيراد.

وفي هذا السياق يرى بعض الاقتصاديين أن تدخل الدولة وتكفلها بتأمين واستيراد المواد الأساسية للمستهلك لا يقطع دابر الاحتكار، ولا شيء يضمن أن لا يدخل المحتكرون على خط شراء ما تستورده الدولة بأساليبهم الملتوية واحتكاره كيفما يشاؤون، فضلاً عن أن قيام الدولة بهذا الدور يشتت جهودها ومواردها بالقطع الأجنبي، معتبرين أن الحل الأفضل هو زيادة عدد مستوردي المواد الأساسية لاسيما الغذائية منها كمادة السكر على سبيل المثال المحتكرة من قبل عدد محدود جداً من التجار، إذ يحق – فق القوانين والأنظمة النافذة – لأي تاجر أن يستورد هذه المادة، ولكن ليس بإمكانه إدخالها إلى البلد،  حسب ما أكدته بعض المصادر المطلعة، مشيرة إلى أن هنا يبرز “دور” حيتان السوق الكفيل بامتصاص جميع البرامج الإصلاحية، والذي لا يوجد إلى الآن أي إجراء لمكافحته سوى الإجراءات الشكلية، لأن فاسدين كباراً يفرضون “حضورهم” في الكثير من المفاصل الإدارية وهم قادرون على صياغة قوانين مفصلة على قياس مصالحهم الخاصة.