دراساتصحيفة البعث

تسليح أوروبا يعرّض الأمن الأوروبي للخطر

ريا خوري

بعد عملية طوفان الأقصى، بدأ العالم يزيد من تصعيده الاستفزازي والعسكري أكثر من أي وقتٍ مضى، لكن تلك العملية لا تُعَدُّ بحدّ ذاتها عاملاً من عوامل نشوب حرب عالمية ثالثة، ولكنها جاءت في سياق تاريخي يموج بالكثير من التحوّلات والأزمات المتفاقمة والتقاطعات، والانهيارات والنزاعات الدولية الكبرى التي قد تؤدّي، تحت ضغط  العديد من العوامل، إلى تطوّر تداعيات تلك العملية لتتحوّل إلى ذريعة تتخذها القوى (المتحفّزة) لدفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة مدمّرة، تمكّنها من تحقيق أهدافها الإستراتيجية في مرحلة تاريخية مفصلية من التاريخ السياسي والعسكري والاقتصادي تمهّد لإعادة بناء النظام العالمي من جديد وفق قواعد وأسس تشاركية.

الأمر لا يتعلّق فقط بمنطقتنا العربية، بل بالقارة الأوروبية والصراع الجاري بين مجموعة دول البريكس والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين ومعهم دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبعض دول آسيا، مثل اليابان وتايوان والفلبين التي يزورها وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن الذي وعد بتقديم تمويل عسكري بقيمة 500 مليون دولار أمريكي، في وقت تعزز الولايات المتحدة علاقاتها مع مانيلا في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد.

أيضاً نجد أنّ أمن القارة الأوروبية ومعه أمن العالم لم يعد مضموناً كما كان في السابق، فالإصرار الأمريكي على الاستمرار بالاستفزاز والتصعيد من خلال شنّ الحروب بالوكالة، أو الحروب المباشرة، أو التمدّد في شرق القارة الأوروبية من خلال حلف شمال الأطلسي، أو إقامة تحالفات عسكرية وأمنية عالية المستوى في المحيطين الهندي والهادئ، أو فرض عقوبات اقتصادية جائرة، كلّ ذلك يضع العالم على صفيح ساخن، ينتظر لحظة الانفجار ويجعل من المواجهة الشاملة أمراً ممكناً ما دامت سياسة الهيمنة والسيطرة والتفرّد بقيادة النظام الدولي تشكّل أساس إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية.

إن قرار الولايات المتحدة وألمانيا مؤخراً نشر  عدد كبير من الصواريخ بعيدة المدى على مراحل في ألمانيا بحلول عام 2026 هو خطوة خطيرة تعمل على زعزعة الأمن والاستقرار في القارة العجوز، وتشكّل تهديداً مباشراً للأمن الدولي والاستقرار الاستراتيجي العالمي، لأنها تستهدف جمهورية روسيا الاتحادية بشكلٍ مباشر.

لقد كان نشر أو استخدام هذا النوع من الأسلحة التي يتراوح مداها بين خمسمائة كيلو متر وخمسة آلاف وخمسمائة كيلو متر محظوراً بموجب معاهدة الحدّ من الأسلحة المتوسطة المدى بين الولايات المتحدة واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، حين وقعت في واشنطن من قبل الرئيس رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف في 1987، وصادق عليها مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة في 27 أيار  1988 ودخلت حيّز النفاذ في 1 حزيران عام 1988 وانسحب البلدان منها في عام 2019، واتهم كلّ منهما الآخر بعدم الامتثال لتلك الاتفاقية، ومع ذلك أعلنت روسيا أنها سوف تلتزم بوقف إنتاج مثل هذه الصواريخ إذا لم تنشرها الولايات المتحدة على مقربة من حدودها، وها هي الولايات المتحدة تنشرها اليوم في ألمانيا!.

إن قرار الولايات المتحدة نشر صواريخ من تلك الأنواع في ألمانيا سوف يؤدي إلى تقويض منظمة الأمن والتعاون في أوروبا التي تأسّست عام 1975 في ذروة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر السوفييتي السابق كمنصة للحوار بين المعسكرين، وتضع نهاية لدورها في تعزيز الأمن والاستقرار والسلام  والتعاون في القارة الأوروبية وبين دولها وبقية دول العالم، أو معالجة مختلف القضايا السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وقضايا حقوق الإنسان، وبمعنى آخر فإن قرار الولايات المتحدة يعني تعرية أوروبا تماماً من أي غطاء يوفر لها الأمن  والسلام والاستقرار.

القيادة الروسية أكدت غير مرّة وفي العديد من المناسبات أنّ موسكو منفتحة على الحوار المباشر مع الغرب بشأن الاستقرار الاستراتيجي، والسلام العالمي، ولكن ليس من موقع القوة العسكرية واللوجستية والاقتصادية، بل على قدم المساواة بين الأطراف المتصارعة، ومع احترام بعضنا بعضاً، وهو أمر تتجنّبه الولايات المتحدة، بل تتخذ فيه خطوات تصعيدية واستفزازية، بما يزيد من التصعيد والمواجهة المباشرة وغير المباشرة لعلها بذلك تحافظ على نظامها الدولي الأحادي القطبية، وتحول دون قيام نظام دولي جديد مشترك بين العديد من دول العالم أكثر مساواة وعدلاً.