الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

بينهم.. ومعهم!

حسن حميد

ها أنذا.. معهم منذ شهور عشرة، أعيش ما يعيشون، وأرى ما يرون، فقطاع غزة يبكي، والضفة الفلسطينية تبكي أيضاً، وكلاهما واقف، إنهما يبكيان الفقد، والدمار، والاعتقال، والموت الذي دهم كل حيّ.. وقوفاً.

الآن، وقفات الخلق الأحياء أمام القرى بكاء، ووقفاتهم أمام المدن بكاء، لأنّ القرى ما عادت قرى، ولأنّ المدن ما عادت مدناً، بعدما غمرتها الطائرات الإسرائيلية بالنار.

المرور بالطرق بكاء، والمرور بالبيوت بكاء، ورؤية الذباب الأزرق الذي يكاد يكون طيوراً.. بكاء، والمرور بالهواء بكاء، فالروائح أناشيد للموت الذي طال كلّ شيء حتى الحجارة والتراب والأشواك، وروائح الأجساد تحت البيوت، وفي المقابر التي فتحت من جديد.. تقول بالصوت العالي: الإسرائيليون مروا من هنا ألف مرة!

والمرور بالمدارس التي كانت مدارس بكاء، هنا.. لا صفوف ولا باحات ولا مقاعد ولا كتب ولا دفاتر ولا طلاب علم ولا أساتذة ولا ضجيج، والمرور بدور العبادة بكاء، هنا كانت مئذنة وقبة وباحة وسيعة، إنها الآن كتلة.. من بكاء، هنا كانت كنيسة عالية الحيطان، كثيرة القناطر، متعدّدة النوافذ، وحديقة خضراء خضراء، وأزاهير، وتراتيل، وروائح بخور، وأيقونات.. أما الآن.. فبكاء، هذه هي فوارغ قنابل الإسرائيليين تحيط بالمكان، وهي ذي جنازير دباباتهم المعطوبة، وبعض أحذيتهم وثيابهم ودمائهم.

والمرور بالمشافي، آه.. أين أنت أيتها المشافي، هو مرور البكاء بنا، فما عادت المشافي بادية، ولا متوارية، إنها أبنية تحفظها الذاكرة، والدروب التي كانت تدور حولها، ما عادت دروباً، والساحات التي جاورتها ما عادت ساحات، والمستودعات الطويلة العالية الملحقة بها ما عادت ظاهرة، إنها الآن أكوام خراب.. إنها بكاء، وسيارات الإسعاف ها هي مدمرة أمام البوابات، وقرب برك الدم وفوقها.

والمرور بالأسواق أحزان، وبكاء، ها هي العرائش والعربات خاوية خربة، لا ثياب هنا، ولا خضراوات، ولا حبوب، ولا دجاج، ولا بط، ولا أرانب، ولا نداءات، هنا بكاء، عفواً، بقايا بكاء، وأكوام من تراب ورمل أقامتها جرافات الإسرائيليين تماثيل للخوف، وموت الحياة.

والمرور بالأبراج المطلّة على البحر.. بكاء، فما عادت لهذه الأبراج زينة الألوان، وزهوة النشور، وكثرة الحدائق والملاعب ومشاتل الحبق والزنبق، ها هي حيطانها، وسقوفها، ونوافذها، وأبوابها، وشرفاتها، وحبال غسيلها، وخزانات مائها، ومحتوياتها.. شاردة فارة طريدة من قنابل الطائرات الإسرائيلية، ها هي في تداخل عجيب مع النار والدخان والرماد والأسئلة الحارقة.

والمرور بالمعابر والمنافذ والطلاقيات السرية.. بكاء، فلا شيء يمرّ أو يعبر أو يدخل أو يدلّ على الحياة، هنا كتل حديد، وراجمات صواريخ، وحولها يجول الجنود الإسرائيليون بوجوه شاحبة مغلقة، تدفعهم الأوامر والحيرة والأسئلة والقلق، والخوف.. إلى هنا وهنا وهنا، ثم إلى هناك؛ وفي القريب الداني تبدو سيارات شحن كبيرة طويلة، وعالية، تزنرها الحبال، وتحتها في الظلال يتمدّد سائقوها عشوائياً وهم يثرثرون، ويدخنون، ويشربون ما في أكوابهم الكبيرة، لهم وجوه من شمع، وشرود لا ضفاف له.

والمرو بالخيام، خيام الكتان والقماش والخيش.. بكاء، هنا حياة طارئة لزمن طارئ، هنا تعلّق جنوني بالحياة، الأم تأخذ وليدها الصارخ إلى صدرها، وتناغيه وتكلّمه وتهزه لعله يبتلع بكاءه قليلاً، وعلى مهل، وقربها عجوز يسألها همهمة: أما آن لهذا البكاء أن ينتهي، وطفلة في العاشرة أو أكثر قليلاً تجدّل شعرها في جديلتين لامعتين، وتغني “ع الندى يا بيضا”، وشاب ناحل، يعض إحدى شفتيه، يعالج شاحن هاتفه الجوال لعل الضوء يعود إليه، وطفل يخطو نحو عالم الشباب يضع “بادون” الماء أمام أمه، ويقول لها مفتخراً: “والله ماء زلال”، فتبتسم له وتقول: “والله لولا مزحك لفقعنا قهراً..!”.

بدا “بادون” الماء، وقد أحاطت به الأبصار، كما لو أنه جرة ذهبية، وهنا، في خيمة أخرى، قطع حطب تتقد، وأب يضحك، وأطفاله يضحكون ويغنون “هابي بيرث ديه عبودة” ويشيرون إلى طفل ممشوط الشعر، مضيء الوجه، يلبس قميصاً نظيفاً جداً، إنهم يعانقونه، والأب، وبآنية ألمنيوم صغيرة، يصنع لهم من الذرة الصفراء بوشاراً، يا الله، إنهم يراوغون الحياة، يصنعون الفرح من فتائل صغيرة، كما يصنع النساجون الزلالي، وهنا في خيمة مجاورة، أم تضع ابنتها في حجرها وتمشط شعرها، وتغني لها “من فوق دار الشيخ سيلي يا حية”، فتصحح الطفلة لها، أمي، عليك أن تقولي “من فوق خيمة الشيخ سيلي يا حية”، وتضحكان، وهذه خيمة امرأة أوقدت الشوك حتى صار ناراً، وفوق النار تضع الآنية الملأى بالماء فوقها، ها هي تقطع حبة باذنجان، وحبة كوسا، وبعض قرون البامياء فوق حبات الفاصولياء والعدس.. إنها تصنع طعاماً لزوجها الممدّد قربها تحت بطانية، بدت من أطرافها قدمه المشدودة إلى الأربطة، وذراعه المحاطة بأسلاك الحديد الرفيعة.

أفرّ مما أراه، قبل أن تفرّ روحي، فارتطم باجتماع لأطفال وشباب، بدوا مثل خلية نحل، رأيتهم يقرؤون في ورق ملون مقصوص مكتوب عليه بلغة عربية ركيكة، سألتهم: ما هذا؟.. فرد أحدهم علي: مناشير طيارات إسرائيلية. قلت: وماذا فيها؟ قال: يطلبون منا إخلاء المنطقة فوراً، قبل أن يلحق الموت بنا. قلت: وماذا أنتم فاعلون؟ قالوا: عبد الرحيم، وأشاروا إلى أحد رفاقه، معه قداحة بيتهم، سنحرق الأوراق بنارها، ولم أبتعد عنهم كثيراً، فقد أوقفني مشهد رجل عجوز، اتكأ على ذراعه يدخن بشرود عجيب، قلت له: الأولاد معهم مناشير رمتها الطائرات الإسرائيلية، قال: وماذا يريد الإسرائيليون؟ قلت: يطلبون إخلاء المكان. قال: يا عم، أنا كنت أستاذ مدرسة، درّست طلابي أشعار توفيق زياد، لهذا أقول للإسرائيليين: نحن على صدوركم باقون كالجدار..

لوّحت له، واستدرت لأرى ناراً صغيرة قريبة من الأطفال، تتعالى ألسنتها، والأوراق الصغيرة المقصوصة الملونة تتراقص محترقة!.

Hasanhamid55@yahoo.com