“مسخ كافكا”.. تجربة الـ”مونودراما” الأولى لفيصل الرّاشد
أمينة عباس
في الوقت الذي تحوّلت فيه المونودراما إلى ساحة تجريب من قبل العديد من المسرحيين، على الرغم من كونها أصعب أنواع المسرح، إلا أن المخرج فيصل الراشد بتاريخه المسرحي العريق والذي يمتلك العديد من الأعمال المسرحية كاتباً ومخرجاً لم يتجرأ على خوض هذه التجربة إلا من خلال مونودراما “مسخ كافكا” تمثيل رايسا مصطفى، وإنتاج مديرية المسارح والموسيقا التي اختتمت عروضها، مؤخراً، على خشبة مسرح القباني. يقول فيصل الراشد في حديثه لـ”البعث”: “لم أفكر بخوض تجربة المونودراما فيما سبق، فسيرتي المسرحية يغيب عنها هذا النوع المسرحي، وما دفعني هذه المرة إلى خوضها أنها انتشرت في الوطن العربي مؤخراً وبقوة، وبات لها مهرجاناتها داخل سورية وخارجها، فتشجعت، خاصة وأنها أنسب للعصر والظرف الحالي، وتتماشى مع الإمكانيات المتاحة لإنجاز عرض مسرحي”.
استوحى الراشد فكرة مونودراماه من الرواية الشهيرة “المسخ” لـ”كافكا” ذات الشهرة العالمية والتي تُعدّ من أقصر رواياته، لكنها الأكثر شهرةً في الأدب العالمي، وما كُتب عنها لا يمكن تصوره، وكانت مادة غنيّة للسينما العالمية، يقول الراشد: “لقناعتي أن كافكا تأثر بحكايات ألف ليلة وليلة في عملية المسخ والتحول، وهي التي سبقته بذلك بكثير، كتبتُ نص مسخ كافكا بعيداً عن بطل مسخه الذي تحول لحشرة ضخمة، وذلك لتسليط الضوء على الأعمال الإجرامية التي ارتكبها الإرهابيون في سورية ومحاولة قضائهم على الهوية السورية بحرقهم للسجل المدني من خلال البطلة الموظفة في السجل المدني والتي كانت تنتمي إلى مجموعة ثقافية تضمّ مثقفين وفنانين وكتّاباًً وصحفيين، وحين تقوم الحرب تتبعثر هذه المجموعة وتتخرب العقول والنفوس وتعيش البطلة كوارثها من كلّ حدب وصوب، وحين تصل إلى مرحلة عدم التحمّل تصاب بانفصام في الشخصية وتنسلخ عن القطيع البشري وتعيش عزلتها فتتحول إلى فرس تتوق للحرية والانعتاق من كل آلامها التي عاشتها في فترة الحرب”.
وعن النهاية المأساوية التي اختارها لعرضه يضيف الراشد: “تنتهي نهاية مأساوية جداً، وكنتُ صادقاً مع نفسي عندما صوّرتُ وعكستُ واقع الحرب الذي عشته كما هو”.
عاش فيصل الراشد تفاصيل الحرب، وكان شاهداً على ما جرى في مدينة عدرا العمالية من قتل وذبح وتخريب وتدمير، فكتب تجربته أولاً في مسرحية “الوصية” التي كتبها منذ سنوات عدة وأخرجها ممدوح الأطرش: “تحدثت في تلك المسرحية عن الحصار الذي عاشته مدينة عدرا العمالية وكنتُ أحد المحاصرين، وعن التضامن الذي عاشه سكان هذه المدينة في وجه القتلة والإرهابيين، وبحكم الزمن أقول إن مسخ كافكا هي أنضج شكلاً ومضموناً”.
ولأن المونودراما هي فن الممثل الواحد، والممثل هو العنصر الأساس فيها تكون مهمة اختياره هي المهمة الأصعب بالنسبة إلى المخرج، وهو ما وافق عليه الراشد الذي يقول: “في البداية كنتُ أبحث عن ممثلة نجمة، وفكّرتُ بأسماء كثيرة، ولكن عندما التقيت رايسا مصطفى وجدتُها الأكثر ملاءمة للشخصية، والبروفات أثبتت ذلك، وزادت قناعتي أن المونودراما لا تعتمد على النجومية، بل على اختيار الممثل المناسب”.
تناوبت الشخصية في سرد حكاياتها بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية، وبيّن المخرج حول ذلك: “كتبتُ النص باللغة العربية الفصحى وكان لا بدّ للممثلة في بعض الأحيان من اللجوء إلى اللهجة العامية لاختصار حالة بكلمة أو جملة قصيرة، وظلّت الفصحى هي الأساس لأنها الأصلح للمونولوجات الكثيرة في العرض”.
ولإدراكها أن المونودراما مغامرة، تقول رايسا مصطفى التي لفتت الانتباه بأدائها: “هيأتُ نفسي أولاً بالعشق الحقيقي لخشبة المسرح التي أجد فيها متعتي، وتعاملتُ مع النص بكل أمانة وحب، وخضتُ التجربة بكل تحدّ وثقة بما أمتلك من موهبة وأدوات جندتُها كممثلة في تجسيد الشخصية وما تحتاجه المونودراما من تلوين في الحوار وتنقل بين الحالات ولعب الكركترات، ولا أنكر أن هذه التجربة ساعدتني في صقل وإظهار زوايا موجودة في موهبتي، وقد نجحتُ في التغلب على الصعوبات المتعلقة بي كممثلة وما له علاقة بالنص بفضل التدريب والالتزام والجهد والعمل على ما تطلبه المونودراما من خوض في تفاصيل الشخصية من حيث تحليلها والدخول إلى أعماقها وتبنّي كل ما يصدر عنها من حوارات وأحاسيس، وكل ذلك بالتعاون مع المخرج الذي منحني حيزاً لرسم وبناء الشخصية، وأعطاني مساحة في التعبير بما يتوافق مع إحساسي كممثلة، لذلك كنت ألجأ أحياناً إلى اللّهجة العامية، مع تأكيدي أن اللغة العربية الفصحى التي قُدّم بها العرض تصبّ في رؤية المخرج من حيث قدرتها على التعبير عن فكرة النص، وبما يتلاءم مع أصالة وحرية هذه الفرس الأصيلة من وجهة نظره، أما بخصوص اللجوء إلى العامية في بعض مفاصل المسرحية فهي جزء من التلوين لتكون أقرب للمتلقي وأمتع”.
وتضيف مصطفى قائلة: “ما شدّني لخوض هذه المغامرة هو النص، حيث جذبتني الأفكار المطروحة وكانت تلامسني كامرأة عانت في مجتمعها على كل الأصعدة، ويُعدّ النص صرخة المرأة ضد القهر والظلم”.
يُذكر أن فيصل الراشد مخرج وكاتب مسرحي من مواليد عام 1948 درس فن المسرح في براغ- تشيكوسلوفاكيا، ونال فيها شهادة الدكتوراه، وكتب نصوصاً مسرحية، ومُثّل له عند دراسته في تشيكوسلوفاكيا نصين مسرحيين من كتابته هما “المخرج والطباخ” و”المسبح تحت ساعة أورلوي” وفازت مسرحيته “المنشار يعزف أحياناً” بجائزة تيمور للإبداع المسرحي في القاهرة، وكتب وأخرج العديد من المسرحيات، وتسلم إدارة المسرح القومي في الحسكة لفترة من الزمن، أما بطلة العرض رايسا مصطفى فدرست الفن أكاديمياً في معهد “دراما رود”، وشاركت في العديد من الأعمال المسرحية.