نور الدين بن يمينة: الغموض المبهم والطلاسم ليست حداثة شعرية
هويدا محمد مصطفى
يتميز الشّاعر التّونسي نور الدين بن يمينة بتجديد طريقة تقديم المفردات والمعنى، إذ يسعى إلى فضاءات الذات من خلال قصائده التي تحمل دلالات وإيحاءات محملة بما وراء الواقع، ويكتب كل الأنماط الشعرية عبر جمالية الرؤية ليسكب قضايا وطنه وعالمه في قصائده المتفردة، وله الكثير من المنشورات الأدبية والنقدية، وصدر له “أذكار في مقام الحزن”، ولديه أعمال قيد الطباعة.
ليبقى النص الأول الذي كتبه نور الدين ذا نكهة خاصة على الرغم مما فيه من عيوب وهنات شكلية ومعرفية مرتبطة بالسن والحالة والمحيط ولكنها البدايات هكذا يقول: “هناك علاقات الحب في الطفولة بما فيها من براءة وعذوبة وطيش أيضاً ونظل نذكرها بكل ود وحنين لذيذ، لكنني اليوم وبعد أن بلغت من العمر عتياً وراكمت في داخلي التجارب المتنوعة وتعددت قراءاتي وصرت قادراً على التمييز والتعامل بنضج أكبر وبقسوة شديدة في غالب الأحيان مع كل نص أكتبه، وعلى الرغم من أن أول نص نشر لي كان في منتصف الثمانينات، لكنني أعد نفسي مشروع نص يحتاج دائماً إلى التشذيب وإعادة القراءة و الصبر عليه أكثر مدة ممكنة”.
وعن رأيه بالكتابة الشعرية يقول: “حالة من الوجد والتجلي، فأنا عاشق ومريد تأخذني نصوصي عند بدء كتابتها إلى حالات الصوفية العميقة فأعتزل العالم على الرغم من وجودي فيه وتعتريني غيمة من الوجوم والتشظي ويغمرني الحزن المكين ولا تخلص روحي من كل ذلك إلا حين الانتهاء من الكتابة الأولى للنص، والشاعر هو الذي يشكل أزمنته كما يرغب حتى يصير الكون عنده حالة وجودية”.
ويحدثنا عن مجموعته الشعرية “أذكار في مقام الحزن” فيقول: “هي إصداري الأول بعد إلحاح من الأصدقاء، وجاءت بعد غياب طويل عن الساحة الشعرية على الرغم من وجودي فيها عملاً ومواكبة وتلق، وأذكار في مقام الحزن هي تجميع لنصوص قديمة متفاوتة الحضور في الزمن حضر فيها الحزن برؤيته الصوفية كمحمل لحالاتي ومواجدي وتيهي وجنوني في بعض الأحيان”، مشيراً إلى أنّ العنوان هو العتبة الأولى التي من خلالها: “نطل على القارئ وندلف إلى روحه ووجدانه ونحرك عمقه، لأننا جميعاً يسكننا ويغشانا الحزن وإن بتفاوت”.
ويتابع: “الشاعر في الأصل كائن متمرد، لكن لا بحثاً عن الشهرة ولفت النظر، إنما لكتابة نص عميق يشكل إضافة في المشهد الإبداعي يحارب به القهر والظلم والظلام وأيضاً يتحدى به شعوره بالتلاشي والفناء ويتصدى به لرجع الهزيمة في ذاته، لذلك فالشعر عندي تمرد على الخضوع، ومن لم يكن متمرداً صعلوكاً ليس له بيت في الكون الشعري”، ويضيف: “الشاعر الحقيقي هو مثقف عضوي على رأي غرامشي، لا يبحث عن الشهرة والمجد إلا من خلال ما يقدمه للإنسان في كتاباته وما يحققه كذات مبدعة”.
ويرى بن يمينة أن الأنثى بكل تجلياتها الحسية والرمزية والفكرية المعرفية هي سبب الكتابة عموماً وتخصيصاً الكتابة الشعرية، ويبين: “هي التي تفتح رؤياك على هذا العالم وتدفعك إلى درجات من الترقي الوجداني والمعرفي وتجعلك تدور في رحاها، وإن تمنعت فالبداية أنثى والحضارة أنثى والنص تسكنه دائماً أنثى وإن تخفت وتزيت بأشكال متنوعة”.
وعن كمية الكلمات التي تجتاح مخيلة الشاعر أثناء الكتابة يقول: “أعتقد دائماً بأن الشعر هو فعل في اللغة وحفر متواصل في جسدها حد العشق والوجد ومن لا يتقن فنون إغراء وإغواء اللغة لا يمكن أن يكتب أو يكون شاعراً، لذلك فأنا قارئ نهم وكما قال الروائي الكبير سارماغو “القراءة بوابتي إلى الكتابة”، وهذا ما يثري ذائقتي أولاً ويراكم المعارف فيها ويمدني بخلفية ثقافية مثقلة لذلك تأتي الصور والكلمات بحسب زادك اللغوي وعمق معارفك أما عني فالمعجم القرآني والمعجم الصوفي فضاءان أستلهم منهما أدواتي، وكل ما أكتبه بكل عمق وجمال فضلاً عن تعدد قراءاتي التي ذكرت”.
وحول شعراء الحداثة الذين يتجهون إلى التأويل والغموض في النص الشعري يقول: “صحيح تقتضي الحداثة الغموض في النص، لكنني أرفض الغموض المبهم والمغلق الذي يصير طلاسم لا يفك أحاجيها حتى صاحبها فهذا الغموض ليس من الحداثة ولا من الشعر أصلاً، فالغموض المحبب هو الذي يحتاج إلى تأويل ولا يغلق على القارئ، فالقصيدة السافرة لا تغري بالمغازلة والمواعدة، أما عن الصور الواضحة والعفوية فكلها تحتاج إلى قراءات مختلفة لأن الشعر حمال أوجه وما زاد على ذلك فهو ترف وبحث عن الظهور”.
ومازال بن يمينة يرى أن الشعر والشاعر الحقيقي في وطننا العربي يحتاج إلى الفضاءات والمنصات الإلكترونية لنشر نصه إلى المتلقي أينما كان والبحث عن قارئ محتمل في ظل غلاء النشر الورقي والعزوف عن قراءة المكتوب ويتابع: “إلا أن ما نلاحظه أن هذه المنصات صارت سوقاً نافقة للأدب الجاد وتسوق للرداءة والرذيلة الشعرية ما عدا بعضها لذلك تناسلت النصوص والأسماء من دون معرفة بمقومات الكتابة ورفض القراءة والإطلاع ومراكمة زاد معرفي وثقافي، لذلك صار الجميع يتجرأ على اللغة والكتابة وكل يبحث عن الألقاب وما أكثرها”.
ويضيف بن يمينة: “المشهد الثقافي العربي يعيش حالة اغتراب ومخاض كما الواقع العربي عموماً فالمشكلة ذاتية وموضوعية أختصرها بغياب المشروع الحضاري الحداثي وغلق باب الاجتهاد الفكري وركود العقل النقدي العربي إلى منطق الخنوع والهزيمة، أما ما نعيشه في تونس فهو انعكاس حقيقي للمشهد العربي مع اختلافات خصوصية محلية جعلت الفوضى الثقافية عامة وخاصة في الشعر لتعالي النقاد عن التعامل مع النص المحلي أو غيابهم عن المشهد أصلاً، متخلين عن دورهم في الجرح والتعديل الفكري والمعرفي والإبداعي.
وختم الشاعر نور الدين بن يمينة حوارنا بالقول: “تحية شكر وامتنان لجريدة “البعث” الغراء التي أتاحت لي فرصة التواصل مع قرائها الأفاضل، ووافر المحبة للشعب السوري ولمثقفيه ومبدعيه وشعرائه حتى ينهمر قاسيون يعمدنا ويطهرنا من أوجاعنا ويعطر أرواحنا بلحن دمشقي أصيل، وكل التحايا لكم من تونس الخضراء ليظل الياسمين عطراً مشتركاً”.