دراساتصحيفة البعث

القصف الذري الأمريكي لليابان.. جريمة إبادة جماعية

د. معن منيف سليمان

تمرّ الذكرى التاسعة والسبعون على الإبادة الجماعية الناجمة عن القصف الذري الأمريكي على “هيروشيما” و”ناغازاكي” في اليابان، وهي أكبر جريمة حرب في تاريخ البشرية. ذلك إن أهوال القصف الذري الأول في العالم وتداعياته لا تزال تطال حياة اليابانيين والعالم بأسره، وتستوجب العمل بجدية على حظر استخدام السلاح النووي في الحروب، نظراً لما تمتلكه من قوة تدميرية منقطعة النظير قد تؤدي إلى عواقب بشرية مأساوية.

ففي نهاية الحرب العالمة الثانية رفض رئيس الوزراء الياباني آنذاك “كانتارو سوزوكي” تنفيذ إعلان مؤتمر “بوتسدام”، وكان ينصّ على أن تستسلم اليابان استسلاماً كاملاً دون قيد أو شرط، ولكن عندما تجاهل المهلة التي حدّدها إعلان “بوتسدام”، قامت الولايات المتحدة بموجب الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي “هاري ترومان” بإطلاق القنبلة الذرية على مدينة “هيروشيما” في السادس من شهر آب عام ١٩٤٥، ثم تلاها إطلاق قنبلة أخرى على مدينة “ناغازاكي” في التاسع من آب من العام نفسه، وكانت هذه الهجمات الأولى من نوعها والوحيدة التي تمّت باستخدام الأسلحة الذرية في تاريخ الحروب.

لقد تسبّب الهجوم في دمار هائل وصف بأنه جحيم لم يسبق أن شهدته الإنسانية على كوكب الأرض، احترق كلّ شيء، ومات الناس والطيور والحيوانات واحترقت الأشجار ودمرت المباني كلياً، وبقيت الآثار ممتدة لسنوات طويلة. لقد كان هذا الحدث الفريد بداية عصر استخدام أسلحة الدمار الشامل، وإمكانية فناء البشرية بسرعة البرق الذي فتحت أبوابه لأول مرة الولايات المتحدة. وقد عبّر “روبرت لويس” مساعد الطيار الذي ألقى القنبلة الذرية عن هول الكارثة حين صاح وقال: “يا إلهي! ماذا فعلنا.. كم عدد اليابانيين الذين قتلنا؟ ولو أعيش مئة سنة، سوف أحتفظ إلى الأبد بتلك الدقائق في ذهني”. ما كتبه في سجل الطائرة.

وبعد الانفجار قالت السلطات اليابانية إن قنبلة “الولد الصغير” أُلقيت على وسط مدينة “هيروشيما” فانفجرت وانتشر مداها على محيط ١.٦ كيلو متر مربع، والنيران التي أشعلتها على محيط ١١.٤ كيلو متر مربع، فقتلت ما بين ٧٠- ٨٠ ألف شخص على الفور، ودمرت ٩٠ بالمئة من مباني المدينة وبنيتها الأساسية، ثم ارتفع عدد الضحايا إلى نحو ١٤٠ ألف شخص بحلول شهر كانون الأول من العام نفسه من إجمالي عدد السكان حينها المقدّر بنحو ٣٥٠ ألف شخص، فضلاً عن تأثر الآلاف الآخرين بالتسمّم الإشعاعي والأمراض المرتبطة به طوال السنوات والعقود الآتية.

وبعد ثلاثة أيام من قصف “هيروشيما” كانت اليابان على موعد جديد من قصف آخر لإحدى مدنها في الجنوب هي “ناغازاكي”، حيث ألقيت القنبلة “الرجل البدين”، وتبعاً للتقديرات، فقد قتل نحو ٤٧ ألفاً من سكان المدينة على الفور، وكان محيط الدمار ١.٦ كيلو متر مربع، ومحيط النيران التي أشعلها الانفجار ٣.٢ كيلو متر ثم وصل عدد القتلى حتى شهر كانون الأول إلى ٨٠ ألفاً.

وبعد خمسة أيام من قصف “ناغازاكي” أعلن الإمبراطور الياباني حينها “هيروهيتو” استسلام بلاده في خطاب أذيع على الأمة في ١٤ آب عام ١٩٤٥، وهو ما عُدّ حينها النهاية الرسمية للحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من فداحة الجريمة وهول الكارثة لا تزال الولايات المتحدة تتمسّك في روايتها الرافضة للاعتذار بشأن قصف المدن اليابانية، بل إنها تؤكد أن القصف كان ضرورياً ومهماً لإنهاء الحرب العالمية الثانية. ولا تزال الولايات المتحدة أيضاً غير نادمة على فعلتها النكراء حتى أنها تبدي الاستعداد لفعل الشيء نفسه مجدداً في حال أعاد التاريخ نفسه.

وكانت ذريعة الولايات المتحدة باستخدام السلاح النووي للردّ على هجوم “بيرل هاربور”، ولكن اليابان عندما هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية قامت بضرب عسكريين، خاصة وأن الميناء كان يقدّم المعونات للسوفييت في حربهم ضد اليابان عن طريق الصين، وهو أمر مشروع في قوانين الحروب عندما يجري استهداف مصدر قوة العدو، ولكن أن يُردّ على ضربة عسكرية بضربة نووية وتستهدف مدنيين ذلك لا يدلّ إلا على نزعة إجرامية مبنية على فكرة القتل والإبادة الجماعية التي تتسم بها الثقافة الأمريكية منذ أن أقاموا دولتهم على جماجم أهلها من الهنود الحمر السكان الأصليين الذين فتكوا بهم وأبادوهم.

وعلى كلّ حال، لقد أدخلت الولايات المتحدة العالم في عصر الدمار الشامل الذي يحوّل المكان المستهدف بعد بريق واحد من الضوء، إلى مكان مقفر مع كومة من الرماد والأنقاض وهياكل عظمية وجثث متفحمة، وعلى الرغم من مرور عقود من الزمن لا يزال اليابانيون يموتون بسبب قنابل الدمار الشامل الأمريكية.

إن الإرهاب النووي الذي تمارسه الولايات المتحدة وتهدّد به العالم يستدعي المجتمع الدولي من باب الإيمان بأن الإنسانية والأسلحة النووية لا يجتمعان، التحرك بجدية والعمل بفعالية عالية من أجل حظر الأسلحة النووية لضمان عالم آمن ونظيف وعادل للأجيال القادمة. ذلك أن أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والبيولوجية والنووية والإشعاعية تشكل تهديداً خطيراً لحياة البشرية على كوكب الأرض.

وإلى أن ينجح العالم بتفعيل حظر استخدام السلاح النووي فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه: متى تتمّ إدانة الولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية فيما يتعلق باستخدام السلاح النووي، وخاصة في ظلّ وجود عقلية أمريكية تعدّ أن الأسلحة النووية أسلحة حرب مشروعة للأمريكيين وحدهم؟!.