تحقيقاتصحيفة البعث

سلبياتها أكثر من إيجابياتها.. ما بدائل خصخصة المشافي الحكومية؟

علي عبود

لم تعد المشافي الحكومية مجانية بالكامل، فمنذ تسعينيات القرن الماضي كان هناك أجنحة مأجورة فيها لمن يقوى على دفع كلفة الاستطباب مع كامل خدماتها، وكانت البداية في مشفى الأسد الجامعي بدمشق.

لم يعترض أحد حينها على تخصيص أجنحة مأجورة طالما لم تؤثر على (مجانية) الخدمات الصحية، بل إننا طالبنا مراراً بتقاضي أجور رمزية من مرتادي القطاع الصحي العام تخصّص مواردها لتحسين أوضاع العاملين في المشافي والمراكز الصحية الحكومية لا أن تُورد لوزارة المالية، لكننا كنا ولا نزال من المعارضين لخصخصة المشافي الحكومية تحت شعار (التشاركية)!.

لمصلحة من؟ 

والسؤال المطروح من قبل ملايين العاملين بأجر: بما أن المشافي الخاصة منتشرة في البلاد منذ عقود، فلمصلحة من خصخصة المشافي الحكومية الآن؟.

من المهمّ أن يكون توجّه الحكومة أو  وزارة الصحة نحو (تحويل جميع المشافي إلى هيئات عامة مستقلة لها خصوصيتها الإدارية والمالية)، فهذا يتيح لها العمل بمرونة وتطوير وتحديث أساليب عملها وأجهزتها واستقطاب الخبرات من ذوي المهن الطبية… إلخ، لكن من الخطأ أن يكون هذا التوجّه بمثابة مقدمة باتجاه خصخصة المشافي الحكومية، بل ما علاقة تطوير وتحديث القطاع الصحي العام بالخصخصة؟

نعم، هناك سلبيات كثيرة في المجانية، لكن سلبيات الخصخصة مرعبة لأنها تحرم ملايين الناس من الطبابة، وقد تودي بحياتهم، ولبنان خير مثال على ما تعنيه (الخدمات الصحية المأجورة).

مثال من لبنان 

تابعنا منذ مدة حديثاً لإعلامية لبنانية حول غلاء الطبابة وعجز حتى الأثرياء عن تأمين كلفتها، وذكرت أن أحد أقاربها الثري جداً بدأ ببيع عقاراته كي يؤمّن العلاج لزوجته والذي يصل إلى 30 ألف دولار شهرياً!

كما أن الكثير من اللبنانيين يحتاج الواحد منهم إلى ما لا يقلّ عن 10 آلاف دولار لإجراء عملية في المشافي الخاصة، لأن المشافي الحكومية ليست قليلة فقط، وإنما تفتقر أيضاً إلى الأدوية النوعية والتجهيزات والأطباء، ولولا الجمعيات الخيرية والأهلية لهلك آلاف المرضى اللبنانيين لعجزهم عن تأمين كلفة العلاج!

كلنا يعرف أن المشافي الحكومية السورية تستقبل منذ تسعينيات القرن الماضي الكثير من اللبنانيين وتعالجهم مجاناً، فما من عامل في مشافينا يطلب هوية المراجع إلا في حالات استثنائية، وهذا مؤشر على قناعة وإيمان الدولة بأهمية تقديم الخدمات الصحية المجانية لمحتاجيها، وهي قناعة تستند إلى أن الاستثمار  في الصحة هو حماية لصحة المجتمع.

نتائج كارثية! 

وإذا كان هناك مقتدرون (يفضّلون الحصول على الخدمة المجانية) فلا يبرّر هذا الأمر خصخصة الصحة بذريعة (أن المقتدرين يأخذون دور وفرصة من يستحق الخدمة المجانية).

يُمكن حلّ هذه الظاهرة بآليات فعّالة تمنع انتشارها في المشافي العامة، والمثال مشفى البيروني مثلاً الذي يُطبق إجراءات صارمة تمنع تسرب أو تهريب الأدوية النوعية إلى السوق السوداء، حيث لكل مريض بطاقة خاصة، وبالتالي يُمكن لأيّ مشفى أن يطبق إجراءات تمنع الأثرياء من الاستفادة من الطبابة المجانية.

كما لا يمكن اللجوء إلى الخصخصة بذريعة أن تكاليف الخدمات الصحية المجانية باهظة جداً على الدولة، فمهما كانت التكاليف باهظة، وبغضّ النظر عن واجب الدولة بالحفاظ على صحة مواطنيها بنص دستوري، فإن التكاليف ستكون كارثية في حال انتشار الأمراض في المجتمع، ولهذا تقوم الدولة سنوياً بتلقيح أطفالها ضد الأمراض السارية والخطيرة مجاناً.

ومرة أخرى نستشهد بلبنان، فقد كشفت عدة جهات صحية، أنهم يفتقرون إلى اللقاحات الخاصة بالأطفال ضد الأمراض الخطيرة كالشلل والحصبة.. إلخ، في حين لم تتوقف الدولة السورية عن تحصين أطفالها باللقاحات في ذروة الحرب الإرهابية.

أجنحة مأجورة 

والسؤال: لماذا سيقوم أي مستثمر بمشاركة الدولة باستثمار مشفى حكومي إن لم يضمن إخضاعه لإدارته المطلقة بما يدرّ عليه الأرباح نفسها التي سيشفطها أيّ مشفى خاص؟ والسؤال الأكثر أهمية: من سيلزم مستثمر المشفى الحكومي باستقبال الحالات المجانية؟

وبدلاً من انشغال وزارة الصحة بخيار الخصخصة، فلتنشغل بخيارات أخرى تتيح تطوير وتحديث الخدمات الصحية من جهة، وتخفض الإنفاق المالي عليها من جهة أخرى.

إن أتمتة المشافي مثلاً يتيح تنظيم حركة المراجعين وتوفير البيانات الدقيقة والصحيحة، وفي حال تزويد كلّ أسرة ببطاقة صحية إلكترونية يمكن معرفة المحتاجين فعلاً للخدمات المجانية وفرزهم عن المقتدرين.

وليس عيباً أن يدرّ الاستثمار في القطاع الصحي المال، لأن ذلك سيتيح تقديم خدمات نوعية متطورة، وهذا يمكن أن يتحقق باللجوء إلى خيار تخصيص أجنحة مأجورة في جميع المشافي العامة، والمطبق منذ تسعينات القرن الماضي في مشفى الأسد الجامعي، شرط أن تُخصّص العائدات للعاملين في المهنة ولتطوير الخدمات والأجهزة الطبية.. إلخ.

خيار الاستقلال المالي 

أما إذا كان الهدف من الخصخصة تحت مسمّى التشاركية تخفيض التكاليف، وهي بالمليارات التي تنفقها الدولة على القطاع الصحي، فإن تحويل المشافي إلى هيئات مستقلة إدارياً ومالياً سيتيح لها الاستثمار في مجالات صحية محدّدة دون أن يؤثر ذلك على المجانية بل يدعمها ويرفع من مستواها ونوعيتها.

ومن هذه الاستثمارات مثلاً أن تقوم بعض المشافي بفتح أجنحة مأجورة لعمليات التجميل وزراعة الأسنان بإدارة أطباء أكفاء، فهي لن تستقطب السوريين المقتدرين مالياً فقط، وإنما ستستقطب مواطنين من دول أخرى، وكلنا يعرف أن الكثير من اللبنانيين يجرون عمليات التجميل وزراعة الأسنان في سورية لأن كلفتها أرخص بكثير من مثيلتها في لبنان، وبما أن الأجور هنا بالدولار، فهذا سيؤمن قطعاً أجنبياً للمشافي يتيح لها تحديث أجهزتها وتحقيق مردود مجزٍ للعاملين بالأجنحة المأجورة.

الخلاصة.. 

المشكلة كانت ولا تزال بتداخل القطاعين “الصحي” العام والخاص، ولم تعمل أيّ حكومة خلال العقود الماضية على فصل القطاعين، مما أدّى إلى تراجع الخدمات الصحية في المشافي العامة، وهدر مليارات الليرات، ولكن الحلّ لن يكون بالخصخصة مهما كانت تسميتها، وإنما بتبني خيارات وآليات تتيح تطوير الخدمات الصحية وتحديث المشافي العامة دون تكبيد خزينة الدولة الكثير من الأموال، دون أو ننسى بأن المجانية مقرة بالدستور، وما يُنفق على الصحة ليس دعماً، بل هي استثمار في صحة المجتمع والاقتصاد الوطني.