دراساتصحيفة البعث

لهذه الأسباب تنصاع واشنطن للكيان الإسرائيلي

هيفاء علي

أثبتت زيارة مجرم الحرب نتنياهو إلى الولايات المتحدة أنها محرجة للغاية للحكومة الأمريكية والنظام السياسي، على الرغم من حجم الاستقبال والتصفيق الذي حظي به وهو الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

التقى نتنياهو على انفراد مع كاميلا هاريس ودونالد ترامب، وكذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن، وكانت رسالته واضحة، فهو يسعى للحصول على دعم الولايات المتحدة لاحتلال مؤقت لقطاع غزة، ومواصلة هذه الحرب إلى أجل غير مسمّى، كما طلب من واشنطن دعم توسيع الصراع لمحاربة إيران بشكل مباشر.

وهكذا تلقى مجرم الحرب، المليء بالأكاذيب الصارخة والتشويهات وأنصاف الحقائق الملتوية، الثناء والدعم، مع الاعتراضات الوحيدة على عدم تصميمه على التوصل إلى صفقة تبادل أسرى مع المقاومة الفلسطينية.

إن ما يقرب من نصف أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغرس لم يحضروا خطابه، الذي لم يكن بأي حال من الأحوال مظهراً من مظاهر معارضتهم للكيان الصهيوني، بل كان له علاقة أكبر بعلاقة الحزب الديمقراطي مع نتنياهو. وبحسب المراقبين، فعندما يرى المرء أعضاء الكونغرس وأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكيين يتصرفون مثل المتعصبين أمام رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، فإن السبب الأكثر وضوحاً هو تواجد اللوبي الصهيوني في كلّ مكان في الولايات المتحدة، ومن الواضح أن مئات الآلاف، بل وحتى الملايين من الدولارات تشتري تصفيق المسؤولين المنتخبين.

أما لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية، التي كانت تعمل في الظلّ ذات يوم، فتتباهى الآن علناً بقدرتها على رشوة المسؤولين المنتخبين، وتتباهى بمعدل نجاح يصل إلى 100% لكلّ مرشح تدعمه. لذا، فإن الإجابة بسيطة بالنسبة لأي سياسي محترف: خذ شيكك، ووقع على التشريعات المؤيدة “لإسرائيل”، وصفق عندما يتحدث أي مسؤول إسرائيلي.

هذا الجانب من التأثير الكبير الذي يتمتّع به اللوبي الصهيوني في واشنطن ينطبق أيضاً على الحملات الانتخابية الرئاسية، وهذا ما يتجلّى حالياً في حالة الحملة الانتخابية بين كاميلا هاريس ودونالد ترامب، والتي تكشف أيضاً الطبيعة الذهانية للوبي والمانحين الصهاينة الرئيسيين، من حيث أنهم غير قادرين على التسامح حتى مع أدنى انحراف عن التبجيل الكامل للكيان الإسرائيلي.

من ناحية الحزب الجمهوري، وبحسب المراقبين، فمن المنطقي أن يُظهر دونالد ترامب صهيونيته علناً، لأن عشرات الملايين من الصهاينة المسيحيين يؤيدونه، ليشكلوا نوعاً من العبادة تجاهه. في المقابل، لا تستفيد كاميلا هاريس، مرشحة الحزب الديمقراطي، من إعلان صهيونيتها علناً، لكنها تضطر إلى ذلك، رغم أن ذلك يضرّ كثيراً بفرصها لدى ناخبيها الأساسيين.

ووفقاً لجميع استطلاعات الرأي الأخيرة، فإن ناخبي الحزب الديمقراطي أكثر تأييداً لمحنة الفلسطينيين، وهذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة لمعظم مجتمعات الأقليات، وبين الشباب الذين يشكلون المجموعات الرئيسية التي يجب على هاريس التغلب عليها للمطالبة بالنصر.

وبغضّ النظر عن التزام هاريس بالصهيونية، وأن زوجها صهيوني يهودي، وأنها تلقت تمويلاً كبيراً من جماعات الضغط المؤيدة “لإسرائيل”، فإن أفضل ما كان يمكن أن تفعله هو تحدي بنيامين نتنياهو بشأن جرائم الحرب التي ارتكبها. ثم هناك أسباب أكثر تعقيداً، مثل أهداف السياسة الخارجية الأميركية، فعلى الرغم من الضجيج السياسي، فإن إستراتيجية السياسة الخارجية التي تنتهجها حكومة الولايات المتحدة في غرب آسيا لا تتغيّر بشكل أساسي، سواء كان الرئيس المنتخب من الديمقراطيين أو من الجمهوريين.

وبينما أطلق جورج دبليو بوش الابن “حربه المزعومة على الإرهاب”، سار باراك أوباما على خطاه بشنّ العدوان على ليبيا، وكانت المشكلة الوحيدة التي واجهت حكومة الولايات المتحدة هي عدم فعالية عمليات “تغيير النظام” في إعادة تشكيل غرب آسيا بشكل أساسي.

وبينما حاول أوباما استغلال الحماسة الثورية الناشئة عما سُمّي “الربيع العربي” من خلال شنّ غزو الناتو لليبيا، فقد فقد أيضاً السيطرة على الوضع ثم استخدم “داعش” لتبرير توسيع الوجود العسكري الأمريكي غير الشرعي في العراق، ثم في سورية حيث فشل في تفتيت الدولة السورية رغم حجم الأموال الهائل التي أغدقها على هذه الحرب الكونية الشرسة.

طوال الوقت، خطّطت حكومة الولايات المتحدة لسحق إيران، لكنها وصلت إلى مرحلة حيث كان من غير المعقول أن تبدأ مثل هذه الحرب المباشرة، في حين تمّ إضعافها بشكل خطير بسبب سلسلة من الهزائم. ثم قررت إدارة ترامب أن الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما عام 2015 لا يستحق الحفاظ عليه، وأنه من الأفضل إتباع إستراتيجية مباشرة للمواجهة مع إيران. وقد تمّ الضغط على ترامب، الذي كان مانحه الرئيسي هو الملياردير الصهيوني شيلدون أديلسون، للتخلي تماماً عن أي فكرة للتسوية والتباهي بوقاحة بنوايا الحكومة الأمريكية في المنطقة. تخلص ترامب من الفكرة القديمة لما يسمّى بـ”حل الدولتين” في فلسطين، ورأى أنه يستطيع تهميش الشعب الفلسطيني لبدء تقارب بين الكيان الصهيوني وسلسلة من الدول العربية.

عندما توّلت إدارة بايدن السلطة، بشّرت بإحياء الاتفاق النووي لعام 2015، لكنها لم تدفع المفاوضات إلى حدّ كافٍ لتأمين اتفاق، مفضلةً الحفاظ على سياسة “العقوبات القصوى” التي انتهجها دونالد ترامب.

وبما أن أفغانستان بدت قضية غير مجدية نسبياً، وكان ترامب قد بدأ بالفعل في سحب القوات الأمريكية، فقد واصل نهجه وسحب قواته بالكامل من أفغانستان. ومن ثم، واصلت إدارة بايدن أيضاً استبعاد الفلسطينيين.

اعتقدت حكومة بايدن أنها أكملت بنجاح المرحلة الانتقالية الطويلة من حقبة الحرب على الإرهاب، لكن يوم 7 تشرين الأول 2023 قلب المعادلة، وترك الأمريكيين والإسرائيليين في حالة صدمة كبيرة، حيث تمكن الشعب المحروم والمضطهد من إلحاق عدوه بهزيمة عسكرية غير مسبوقة في تاريخ الصراع، ما أثار غضب الولايات المتحدة والمشروع الصهيوني، اللذين قررا وضع حدّ للمقاومة الفلسطينية إلى الأبد، وقررا أنه لن يكون هناك المزيد من القواعد، ولا مزيد من ميثاق الأمم المتحدة أو القانون الدولي، بينما عادت عقلية المستعمر إلى منطق “قتل الهمج”، فأمطروا الجحيم على سكان غزة. واقتناعاً منهم بأن عدوانهم الوحشي على غزة، وارتكاب الإبادة الجماعية، من شأنه أن يضع حداً نهائياً للمقاومة الفلسطينية، ويسحق إرادة شعب شهيد بالفعل، فإنهم يعانون اليوم من الهزائم المتعاقبة. والمقاومة الفلسطينية لا تضعف، بل تزيد قوة وإصراراً في الوقت الذي يعزّز فيه حلفاؤها عزيمتهم، ويشنون هجمات أكثر جرأة على كافة الجبهات، بينما يتكبّد الكيان الصهيوني خسائر لن يتعافى منها.

والحقيقة أن الصهاينة الأمريكيين، والصهاينة التابعين للكيان نفسه لا يرون حلاً قابلاً للتطبيق سوى استمرار الحرب، ولذلك يضخون كلّ أموالهم في السياسيين الذين سوف يستجيبون لمطالبهم، في حين أن المجرم نتنياهو لن ينهي الحرب، لأن إنهاء الصراع قد يعني نهاية عهده. هذا، في حين أن اللوبي الصهيوني يلقي كل ثقله على الحكومة الأمريكية كما لم يحدث من قبل، وخياره الوحيد لتأكيد هيمنته على غرب آسيا يفلت منها الآن.