آباء يجهضون مستقبل أبنائهم بإجبارهم على دراسة تخصص جامعي لا يناسب ميولهم ورغباتهم!
ليندا تلي
تعوّدنا منذ الصغر على الرّد بعفوية على سؤال مازال يُطرح على الأجيال واحدا تلو الآخر، ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ ما يجعل الولد يدأب لتحقيق ما أجاب به وبالتالي يدخل في حالة صراع بين نفسه وبين قدراته لقاء سؤال تقليدي لا أبعاد له سوى أنّه ثرثرة وتقليد أعمى غير محسوب الأبعاد.
واليوم مع اقتراب صدور معدلات القبول الجامعي تتكرّر الحكاية ذاتها حيث يتولى الكثير من الآباء ملء استمارة رغبات أبنائهم دون مراعاة ميولهم وقدراتهم العقلية والفكرية ظناً منهم بأنهم الأكثر خبرة ودراية بمصلحتهم ولتوقّعهم الكبير بقدرة أبنائهم على تحقيق رغبات آبائهم مع العلم أنّ هناك الكثير من الدراسات نبّهت من خطورة تلك التوقّعات المبالغ بها.
“برستيج” للتباهي
“التقليد الأعمى” بغية مجاراة المجتمع يدفع ثمنه الأبناء وفق ما وصفت السيدة هيام، التي أسفت لعدم اتّعاظ الآباء من التجارب والأمثلة الفاشلة، بل يصرّون على التدخّل واختيار اختصاص يناسبهم هم ولا يناسب ميول أبنائهم كنوع من تعويض ما فشلوا في تحقيقه، وربّما في كثير من الأحيان “برستيج” للتباهي به أمام أقاربهم وأصدقائهم بالقول” ابني يدرس الطب أو الهندسة”، فتحصيل العلم برأيهم مقتصر على هذين الاختصاصين.
احترام رغبات
“أما السيدة عائدة فتتعامل مع أولادها منذ الصغر كأصدقاء ولذا كان من ضمن أولوياتها وبالاتفاق مع زوجها احترام رغباتهم، حيث احترمت رغبة ابنتها في اختيار معهد الموسيقا وساندتها رغم كم النقد والاستهجان الذي تعرّضت له ابنتها من الأقارب كونها متفوقة، ولكن وبحسب السيدة عائدة فإن نجاح ابنتها فيما تختاره فوق كل اعتبار، ويتفق معها في هذا الرأي السيد حسين معلا الذي اقتصر دوره وزوجته على تقديم النصائح والتوجيه لأولادهم بدراستهم، مفضلين أن يختاروا فرعا تتمّ الاستفادة منه كمهنة لا وظيفة، مؤكداً أنه سيحترم خيارهم مهما كان.
إرشاد وتوجيه
وبررت السيدة ميساء تدخل الأهل باختيار رغبات أبنائهم في الجامعة، بالخوف على مستقبلهم في عالم مليء بالتنافسية والابتكارات التكنولوجية وعدم تكافؤ الفرص، عدا عن أنهم يريدون تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه عبر أولادهم، وبعضهم يريدون نسخا معدّلة منهم، في حين ترى مها “مدرّسة” أنّ اختيار الآباء لتخصّص أبنائهم يجعل الأبناء يعيشون صراع بين رغباتهم ورغبات آبائهم، ففي بعض الأحيان يختار الآباء تخصّصا بعيدا كل البعد عن ميول أولادهم مما يؤدي إلى تدنّي تحصيلهم الدراسي والشعور بالإحباط والاكتئاب وبالتالي الفشل، وهذا ما تدعمه الأكثرية التي تنصح بأن يقتصر دور الأهل على الإرشاد والتوجيه وترك الاختيار للأبناء كي لا يعلّقون فشلهم على والديهم.
مجاراة المحيط
السيد محمد أرجع أسباب تدخّل الأهل في اختيار تخصّص أبنائهم إلى مجاراة الأهل والأقارب والجيران، واصفاً هذا التدخّل بالعادة السيئة المتوارثة من غير دراية لمجرّد “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”، رغم وجود الكثير من التخصصات التي لها مكانتها ومساهمتها الفعّالة في عملية بناء المجتمع والنهوض به، في حين أرجع السيد أحمد سبب إصرار الأهل على دخول أبنائهم كليتي الطب والهندسة إلى تخوّفهم وخشيتهم من نظرة المجتمع الدونيّة لباقي الاختصاصات، وعدم درايتهم ووعيهم الكافي لتخصّصات تبني الذات والعقل مثل الموسيقا والتمثيل، على سبيل المثال لا الحصر، في حين دعمت السيدة غيثاء تدخل الآباء في اختيار تخصّص أبنائهم الجامعي باعتبار الابن يبقى بحاجة لرأي أهله مهما كبر وبلغ من العمر بغية اختيار القرار الصحيح والمناسب مع التركيز على ضرورة إقناع الولد بذلك الخيار لا أن يكون إجبارياً.
تهديد ووعيد
يولّا تلّه اختارت لابنتها دراسة الطب باعتبارها حصلت على مجموع التحضيرية وبجدارة رغم إصرار الأخيرة على دراسة البحوث العلمية، ولكن بعد تهديد ووعيد رضخت الفتاة لرغبة والدتها واليوم تنتظر النتيجة، رغم نظرات اللوم والعتب التي ترمق بها والدتها بين الحين والآخر في حين الرضا والقناعة يثلجان صدر الأم التي أرجعت سبب تدخّلها في خيار ابنتها باعتبار الولد في هذه الفترة من العمر أعمى وغير مدرك لمصلحته وأنّ الأهل هم الأدرى، فكيف إن كان هذا الاختصاص حلم الكثيرين، في حين اعترفت السيدة سونيا بتحقيق حلمها الذي فشلت في تحقيقه عبر ابنها من خلال دراسته هندسة العمارة رغم أنّه يعشق مهنة التمثيل فمنذ الصغر ويحلم بأن يصبح نجماً عالمياً ولكن لا وجود لمثل هذا الاختصاص في عائلتهم، والكلام للأم، باعتبار العائلة محافظة وأغلب أفرادها من ذوي الدرجات العلمية العالية.
شخصيات سادية
تتعدد وجهات النظر في هذا الموضوع وفق ما ذكرت الباحثة الاجتماعية ندى بعبع، التي أشارت إلى ضرورة النظر إلى أمرين مهمين، أحدهما موضوعي ويتعلق بمدى معرفة الأبوين بالتخصصات الجامعية، والثاني هو السمات الشخصية والاجتماعية للأبوين، ومن هذا السياق قد نجد، والكلام لـ بعبع، أبوين على معرفة تفصيلية بالتخصصات العلمية الجامعية ولكنهما يتمتعان بشخصية سادية تفرض رأيها على أبنائها بما يتناسب مع الوضع الاجتماعي وفي هذه الحالة قد يكون الاختيار لا يناسب شخصية الأبناء مما يؤدي إلى عدم نجاحهم في تخصصهم.
شخصية متأقلمة ومنسجمة
وقد نجد الشخصية المتأقلمة والتي تراعي ما يطلبه الأبناء ولكنهم ليست على دراية كافية بالاختصاصات وأهميتها فيكون الاختيار من قبل الأبناء ولكن غير مناسب بسبب قلّة خبرتهم، وقد نجد الآباء على معرفة بميول أبنائهم وبأهمية الاختصاصات الجامعية وهم منسجمون مع أبنائهم وهنا يكون خيار الآباء صحيحا جداً، ولكن عندما يعود الخيار للأبناء فهنا يجب أن ننظر إلى مدى إدراك الأبناء ومدى قدرتهم على محاكمة منطقية تجمع بين رغباتهم وأهميّة الاختصاص الذي يؤمّن له حياة كريمة.
ولفتت الباحثة الاجتماعية إلى نقطة مهمّة تتجلى بعدم القدرة على تقييم من هم الأنسب في اختيار الفرع لأن ذلك يعود إلى مجموعة من السمات الشخصية والعقلية التي يمتلكها الآباء والأبناء ومن يمتلكها يكون صاحب الخيار الصحيح والأنسب.
نقاش وحوار
لأن أبناءنا قيمة علمية وأمانة أودعها الله لنحافظ عليها، لابد من الاهتمام بهم من مختلف الجوانب الاجتماعية والنفسية والتعليمية وتأمين احتياجاتهم المناسبة لتحقيق أهدافهم في الحياة ولهذا كان لابد من تبني أسلوب الحوار والنقاش في التعامل معهم للمساعدة في تحقيق هدفهم وعدم استخدام السلطة بفرض الآراء على الأبناء، وفق الأخصائية النفسية الدكتورة سلام قاسم التي أشارت إلى أن التدخل بمصير الأبناء دون النظر إلى ميولهم والأخذ بوجهة نظرهم يؤدي إلى مشاكل نفسية متعددة، منها الاكتئاب وأحيانا سلوكيات خاصة، كالتنمّر وأحياناً تصل إلى مواقف خاطئة نتيجة تبنّي فكرة أن الأهل لا يثقون بهم، كما أن فقدان الثقة بين الآباء والأبناء يؤدي إلى ضياع الابن وضعف تحصيله الدراسي الذي قد يصل إلى انسحابه من الجامعة.
تميّز وإبداع
ونصحت قاسم بضرورة أن يكون دور الآباء بتقديم المشورة لأبنائهم بلغة سليمة ولهجة محببة والإرشاد الصحيح لمساعدتهم على حسن الاختيار والابتعاد عن فرض رأيهم عليهم، إذ أن التفوق والنجاح يتوقّف على محبة الطالب ورغبته في التخصص العلمي، ضاربة مثال بوجود الكثير من الأطباء غير ناجحين، وبالمقابل هناك الكثير من المهن لمعت بأسماء مؤسسيها، مؤكدة بأن كل الاختصاصات جيدة وضرورية لبناء المجتمع ولكن الأهم هو التميّز والإبداع الذي يعتمد على محبة ما نقوم به.
في الختام نرى أن تدخّل الآباء في تحديد رغبات أبنائهم ظاهرة ترسّخ للأسف في المجتمع والذي بات عاجزاً عن التخلّي عنها رغم التوعية، وقد تتحوّل الظاهرة في بعض الأحيان إلى تعنّت وسيطرة ما من شأنه أن يعلّم الابن التبعية والاعتماد على الآخرين في كلّ شيء ويفقده الكثير من شخصيته وبالتالي سلوكه العملي ما يجعله غير فاعل وناجح في عمله.