ألمانيا تعيد سيناريو المواجهة مع روسيا الاتحادية
ريا خوري
يشهد العالم تغيرات جوهرية متسارعة، خاصة على مستوى القارة الأوروبية. هذا التغيير بات واضحاً وجلياً في مواقف العديد من الدول الغربية، وتحديداً منذ بدء العملية الخاصة في أوكرانيا، التي لها وجهان: وجه ظاهر للعيان ويجري الحديث عنه في الأوساط الإعلامية والقنوات الدبلوماسية، ووجه آخر يجري في الخفاء قد يتكشف وتتضح معالمه بين الفينة والأخرى.
المتابع لمجريات الأحداث المنظورة وغير المنظورة لما يجري في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية من خلال منظومة قواعد السياسة الدولية يدرك أنَّ التصريحات والتحالفات تشي بأنَّ هناك أشياء وخطط ومشاريع خطرة يتم الإعداد لها قد تغيّر وجه التاريخ ولعدّة قرون قادمة. ذلك أن الغرب الأمريكي – الأوروبي الذي فرض سطوته وهيمنته على العالم منذ القرن السادس عشر الميلادي، بدأ يفقد قدرته على مواصلة هيمنته في زمننا الحاضر، بسبب العديد من العوامل، الخاصة به، كالعامل الاقتصادي والعامل الديموغرافي، وبسبب ظهور أقطاب دولية جديدة قوية أثبتت حضورها الدولي كونها باتت تنتج أكثر من الإنتاج الصناعي العالمي الذي يأتي من الغرب الأمريكي – الأوروبي.
ولأنَّ القوى لا تسقط من تلقاء نفسها، بل من خلال المواجهة المباشرة وغير المباشرة، والمغالبة في شتى المجالات، فقد تتابعت الأحداث منذ مطلع هذا القرن عندما أعلنت الصين وروسيا الاتحادية عن عقد معاهدة (التعاون الودّي) بينهما، وتحوَّلت تلك المعاهدة، فيما بعد، إلى علاقة إستراتيجية خاصة تتمتع فيها الدولتان بشراكة وثيقة في المجال العسكري، والأمني، والسياسي، والاقتصادي، والثقافي.
وقد بدا أنَّ الصين وروسيا الاتحادية أصبحتا تمثلان محوراً واحداً هاماً وقوياً في وجه دول التحالف الغربي الأمريكي- الأوروبي. فقد قابلت الولايات المتحدة الأمريكية التعاون الصيني الروسي بمواقف مضادة من خلال العمل على تسريع ضمّ دول شرق أوروبا، التي كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي السابق، إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واقتراب هذا الحلف كثيراً من حدود روسيا الاتحادية، حتى أصبحت العاصمة موسكو على مسافة قريبة من حلف شمال الأطلسي.
كما كثَّفت الولايات المتحدة الأمريكية تعاونها العسكري مع تايوان، وبعض الدول الحليفة لها في جنوب شرق آسيا مثل الفلبين، وكان الهدف من ذلك هو تطويق كل من الصين وروسيا بدول غير صديقة، ما يؤدي في النهاية إلى احتواء الدولتين، ومنعهما من كسر الهيمنة والسيطرة الغربية في العالم.
وكانت أوكرانيا قد وُضِعَت في قلب الإستراتيجية الغربية لتقف ضد جمهورية روسيا الاتحادية، بشكلٍ مباشر وغير مباشر، وقد تم دفع الأوضاع فيها نحو ثورة ملوّنة تمكنت من المجيء بحكم فرض موالاتها للغرب الأمريكي – الأوروبي عام 2014، فسارعت روسيا الاتحادية إلى استعادة شبه جزيرة القرم التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية، وهكذا تم استرجاعها من الأراضي الأوكرانية، وضمّها إليها من جديد، فبدأت منذ ذلك التاريخ الخطوات تتسارع باتجاه إحداث نزاع شامل بين المحورين، لكن أوكرانيا باتت تحتضر بسبب القوة الروسية الهائلة، وسقوطها سيكون بمثابة كارثة كبرى للغرب، وسوف تبرز روسيا الاتحادية كقوة عالمية لا تُقهَر.
لذلك عادت دول أوروبا الكبرى مرّةً أخرى إلى رسم استراتيجيات جديدة، وتمثل فرنسا وألمانيا أهم قوتين في البر الأوروبي، وقد كانت ألمانيا وفرنسا محور الحربين العالميتين الأولى والثانية، كعدوّين لدودَين، لكنهما أصبحتا جزءاً هاماً وأساسياً من التحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
الجدير بالذكر أنّ فرنسا كانت حليفاً قوياً لروسيا خلال الحرب العالمية الأولى التي خاضتها روسيا إلى جانب الحلفاء. وفي الحرب العالمية الثانية وقف الاتحاد السوفييتي السابق إلى جانب الحلفاء (فرنسا وبريطانيا)، وضد محور (برلين _ روما)، وتمكَّن الروس من إلحاق هزائم كبيرة بالجيش النازي الهتلري في معارك ستالينغراد الشهيرة، وكانوا أول من دخل العاصمة الألمانية برلين في شهر نيسان عام 1945.
واليوم تعود ألمانيا الاتحادية إلى عداوتها السابقة، وتقرِّر السعي الحثيث للمواجهة مع جمهورية روسيا الاتحادية، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وفي هذا السياق فقد تم نشر العديد من التقارير التي تؤكد أنَّ ألمانيا الاتحادية تستعد للحرب مع روسيا الاتحادية، وهي تستثمر بشكلٍ منظَّم كل ما يمكن تحقيق هذا المشروع، فقد عمدت إلى توظف المال في كل شيء، بدءاً من الذخيرة النوعية كمّاً وعدداً، وعلى نطاق واسع في مجال النقل، والطائرات بكل أنواعها، والدفاع الجوي، والأقمار الصناعية، وأنظمة القيادة والسيطرة، والطائرات من دون طيار، ومنصات الاستطلاع.
من هنا يمكننا استشعار موقف ألمانيا الاتحادية من الحرب الدائرة في أوكرانيا، خاصة وأنّ القيادة الألمانية تتابع حالة التدهور والوهن والضعف الأوكراني في مواجهة القوات الروسية، لذلك وضعت خططاً تبدو أنَّ ألمانيا ستتدخَّل إذا شارفت أوكرانيا على الانهيار. كان هذا مترافقاً مع ما قد أعلنته وزارة الدفاع الأمريكية أنها ستنشر صواريخ (6SM) و (توما هوك) في ألمانيا، وتُطلَق تلك الصواريخ من الغواصات العسكرية المتطورة، وسطح البحر، ومن الجو، والأرض، ويصل مدى الصاروخ إلى 2500 كيلومتر، على أنَّ المسافة من ألمانيا الاتحادية إلى الأراضي الروسية، عدا مدينة كالينينغراد، نحو 1200 كيلومتر. وهذا ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتهديد باستئناف إنتاج أسلحة نووية متوسطة المدى إذا أكدت الولايات المتحدة الأمريكية عزمها نشر تلك المنظومات الصاروخية وغيرها في ألمانيا، أو في أيّ مكان آخر في أوروبا. وكانت روسيا قد حذرت مراراً من أنَّ نشر صواريخ أمريكية بعيدة المدى في ألمانيا الاتحادية قد يجعل العديد من العواصم الأوروبية أهدافاً للصواريخ الروسية الفتّاكة.
يبدو أنّ هناك تغييراً كبيراً في المستوى الاستراتيجي الأوروبي – الأمريكي، فها هي فرنسا بدأت تتململ وتبدي رغبتها في احتمال خروجها من التحالف الغربي ضد روسيا، ذلك أن فرنسا تدرك جيداً أن عدوتها، التاريخية، هي ألمانيا الاتحادية وليست روسيا، وهناك خلاف تاريخي طويل بين البلدين يمتد إلى (معاهدة فردون) عام 843 للميلاد.
وليس السلام الذي كان بين الدولتين حتى الآن، إلا سلاماً له خصوصيته فرضته ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، ومع تغير تلك الظروف وتلك التحوّلات، فإن الخلافات السابقة التي وصلت مرحلة العداوات سوف تظهر من جديد، وتتجلى على أرض الواقع على الرغم من مرور عشرات السنين، خاصة أن ألمانيا الاتحادية استعادت قوتها، وعافيتها من جديد تحت سقف حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وباتت قوة فاعلة أكثر بالنسبة إلى الفرنسيين. كما أنَّ فرنسا قد عبّرت مراراً عن عدم قبولها فكرة أنَّ ألمانيا تقودها كما تقود بقية دول الاتحاد الأوروبي كونها أكبر قوة اقتصادية ومالية في القارة الأوروبية، وتسعى للاستقلال بسياساتها وتبادلاتها التجارية والاقتصادية.