“المعلم” وأنا وتلامذةٌ آخرون!
حسن يوسف فخور
محمولاً على الأرواح، مضرجاً بالحب، ملفوفاً بذكريات السوريين وأمنياتهم، ومدفوناً في مقام التاريخ؛ هكذا رحل حسن سامي يوسف إلى مثواه الأخير، وبقيّت ضحكاته ترّن في أرواحنا!.
بدأتْ حكايتي معه مذ طفولتي، حيث كانت تثيرني شجاعة “عبود” في الانتظار، ذاك اللامنتمي إلا للفقراء والمعدومين، لم أكن ناضجاً بالقدر الذي يثيرني اسم الكاتب، مرتْ السنون، وشاهدتُ “الغفران”، حملتني حواراته إلى عالمٍ آخر، كبرتُ، وشهدتُ الحرب، وتعرضتُ للموت مراتٍ عدة، أحببتُ كثيراً وخُذلتُ أكثر، كتبتُ ما تمليه عليّ انفعالاتي، حتى العرض الأول للندم!.
كنتُ في السنة الأولى من حياتي الجامعية في كلية الإعلام، محملاً بقصائد نزار قباني ومحمود درويش، ممتلئاً بفلسفة جبران والماغوط وممدوح عدوان، ومنكهاً بنكات زياد الرحباني ووليد معماري، ومثقفاً من مناهج اللغة العربية المنسقَة وسينما سوريا، وأعمالها الدراميّة، كنتُ خليطاً من كل ذلك، شابٌ فتيٌ بأحلامٍ مجنونة، أحمل حقيبةً أينما ذهبتْ، من يراها يعتقد أنني أشغل منصباً مهماً، وفي الحقيقة لم تكن تحوي سوى العديد من الأوراق البيضاء، قصائدٌ لم تكتمل، ورسائل لم تُرسل، ورسومٌ تشبه محاولات طفلٍ في الخامسة، ومبادئ منظمة إنسانية لم تنطلق، كانت تشبه إلى حدٍ كبير حقيبة “عروة” في “الندم”، حتى شرودي، ومشيتي، وأفكاري، ومبادئي، وعصبيتي، لفتتني عبارةٌ ابنة جيراننا المراهقة لأمها، كم يشبهني “عروة” بنظرها، حملني التشبيه إلى الالتزام بمشاهدة هذا العمل على الرغم من انشغالي بترميم جروحي الاقتصادية بعد استعار الحرب في البلاد.
لم يكن “الندم” عملاً درامياً، ووجبةً رمضانيةً دسمةً بالنسبة لي، بل كان مدرسةً متكاملةً انطلاقاً من الورق إلى تجسيده والرؤية الإخراجية له، كان جرعةً ثقافيةً أتناولها بشراهةٍ مع القهوة أو كأسٍ من النبيذ، كلُ مشهدٍ بالنسبة لي كان مرحلةً انتقاليةً، فصلاً جديداً من الحياة، كلُ ما حملته منذ طفولتي من فلسفةٍ وفكرٍ وفنٍ كنتُ أعيد ترتيبه من خلال مشاهد “الندم” بطريقة أو بأخرى.
بحثتُ عن اسم كاتب العمل، ثم رحتُ أبحث عن نتاجه، وإذ به أحد عرابي طفولتي التي أخذوها من أفلام الكرتون إلى عشوائيات دمشق وحاراتها الشعبية بأفراحها وأتراحها، فتح عقلي على مشكلاتها الاجتماعية وقصص حبها، قرأتُ رواية “عتبة الألم”، وسادني صمتٌ مطبقٌ مدة عشرة أيامٍ، لم أستطع أن أحرك شفاهي، نشوةٌ عظيمةٌ من الألم أطبقت على روحي، راسلته لألتقيه، رحّب بي إلا أن ظروف الحياة منعتني، لم يطل الأمر حتى أعلن عن مسابقةٍ، كنتُ أحد المحظوظين لا بل المحسودين بمقعدٍ يجمعنا معه خلال ورشة عملٍ استمرت شهراً، وربما أكثر.
جاء اليوم الموعود، اللحظات الأولى كانت عظيمةً، أكاد أحلف بأنني كنتُ أسمع دقات القلوب تتسارع، والوجوه تنتظر، والعيون مشدودة نحو الباب، والأجساد ترتعش وترتجف، لو كان هناك كاميرات في زوايا القاعة؛ لاستطاعت رصد مشهدٍ درامي حقيقي، كما فعل الليث حجو في مسلسل “الانتظار”، دخل المعلم مبتسماً، ويحمل حقيبته، وحقيبةٌ بلاستيكية، ممتلئةٌ بقوارير المياه، أصغر تلميذٍ فينا كان قد تجاوز العشرين وأكبرنا ناهز الثلاثين إلا أنَّ معلمنا الشاب السبعيني كان يحمل لنا الماء معه، لكي لا نُضطر لمغادرة القاعة ولو لثوانٍ، فنخسر معلومةً ما، خلاصة خمسين عاماً أو أكثر في احتراف السيناريو.
كانت المدة المحددة لكل جلسةٍ هي ساعةٌ ونصف حتى الساعتين، لكنّ المعلم كان يجالسنا ساعاتٍ من دون أن يعدّها، لكننا كنا نعد سجائره التي لم تنطفئ وأكواب قهوته التي لم تنضب؛ خوفاً على صحته، ساعاتٍ من دون طعامٍ دفعتني لأحضر له وجبةً من البيتزا مع علبة عصيرٍ طبيعي في أحد الأماسي، لكنه بعاطفة الأب رفض أن يأكل وحده، كانتْ وجبة البيتزا تلك على بساطتها أشبه بالعشاء الأخير، أكل منها كل تلامذته وشربوا العصير.
لم يكن المعلم حسن سامي يوسف مشروعاً فلسطينياً مهجّراً، ولا أديباً فذاً، ولا “سيناريست” محترفاً، بل إنساناً ومدرسةً وتاريخاً قائماً بذاته، جاء المعلم ورفاقه ثم جاءت الدراما السوريّة، ففي البدء كان الكلمة.