الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

علي الجندي..!

حسن حميد

الآن، وفي ذكرى الرحيل، أتذكر بكل الاعتزاز والمحبة، لقاءاتي، وما أكثرها، بالشاعر علي الجندي، الذي شكل ركيزة نواة لتطور الشعر الحديث في سورية، منذ عقد الستينيات وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين، لا، بل أعدّه واحداً من حرّاس الشعر العربي الحديث ورعاته، قبل خمسين سنة، حين كانت قولات نقّاد الشعر في تداخل وصخب وغضب وشطط وتصارع من خلال المقالات التي تنشرها الصحف والمجلات، ومن خلال الكتب التي تصدرها وتوزّعها دور النشر.

علي الجندي شاعر حداثة ومفارق أيضاً، أخلص للشعر الحديث، شعر التفعيلة، ووقف بقوّة في وجه القصيدة التي تكتفي بالنظم، أي أنّ موقفه من القصيدة كان موقفاً جمالياً يعترف بالضوابط التي تحدّ من شطط القصيدة لأجل الشطط، ولفت الانتباه.. قال بالإيقاع وحرص عليه، وقال بالموسيقى وبحث عنها في النص الشعري، ونادى بالجرأة وكتبها، وخرج على قافية البيت كي لا يبقى شيء يذكّره بقصيدة العمود، وأراد للقصيدة الحديثة التي اشتقّها شعراء العراق: السيّاب، والملائكة، والبياتي أن تبدي صفاتها الجمالية، وأن تصير لغة النقد التي تتحدّث عنها لغة أخرى لها قوامها، وخصوصيتها، وأسلوبها وحداثتها في استبطان جمالياتها.

علي الجندي كان مرآة للحداثة الشعرية، بعد أن عشق السرد وكتبه عبر قصصه التي ما تزال منشورة طي الصحف السورية واللبنانية والمصرية إلى يومنا هذا، ولم يجمعها كتاب، وبعد أن أعد نفسه ليكون سارداً يتحدّث عن هموم الناس وغمومهم من جهة، وعن أحلامهم الصغيرة والكبيرة من جهة أخرى، ولم تكن الحداثة الشعرية التي أرادها علي الجندي حداثة مستوردة، وهو العارف باللغة الفرنسية، وإنما ارادها حداثة آتية من التطور الطبيعي للقصيدة العربية التي عرفها الشعر العربي مع أبي العتاهية وأبي نواس في العصر العباسي، ومع شعراء الأندلس الذين غيّروا، وتبنّوا، واشتقّوا بنية وهيكلية جديدتين للقصيدة العربية، وأهملوا وأضافوا الكثير لكي يكتبوا قصيدة تشبه الحال الأندلسية آنذاك.

علي الجندي، كان بهرة ضوء شعرية سبقت تجارب شعرية سيواكبها بالقراءة، والتأمّل، والحديث، والحوار، والتأييد، كان من أكثر أسمائها أهميةً: ممدوح عدوان، ومحمود السيد، وعبد الكريم الناعم، وأحمد يوسف داوود، ونزيه أبو عفش، وسيشكل مع هؤلاء الشعراء، دارة للجسارة الشعرية التي تقدمت أشواطاً في تثمير الحضور الشعري السوري من جهة، ومناداته للمشاهد الشعرية العربية الأخرى من جهة ثانية، لهذا سيردف الشعر السوري، مع بداية عقد السبعينيات في القرن العشرين المنصرم، بتجارب شعرية جديدة، لها زهوتها في تخيّر المعاني والمباني والتوكيد على غنى جمالي لم يلتفت إليه سابقاً، ومن أصحاب هذه التجارب: نزار بريك هنيدي، وبندر عبد الحميد، وأيمن أبو شعر.. إلخ.

قلت هذا، لكي أبدى أهمية الحضور الشعري والثقافي اللذين شغلهما علي الجندي، وهو يحدّق طويلاً، وبعين من قرأ الفلسفة في الجامعة مرات، ومن قرأ مدونة الشعر الفرنسي في الكتب الصادرة مرات أيضاً، ليرى الجماليات واجبة الحضور في النص الشعري الذي تليق به صفات: الحديث والجديد، والنايف، والحق أنّ علي الجندي، ومن خلال معرفتي به، كان صاحب جسارة صارمة في تحديد جماليات النص الأدبي عامة، وليس النص الشعري وحده، فهو ناقد باطش لنصوصه الشعرية، ومن قبل.. لنصوصه القصصية، وللنصوص الأخرى المنشورة في الصحف والمجلات والكتب، سواء أكانت عربية أم أجنبية، وكان أيضاً صاحب ذائقة نقدية مرهفة جداً وهو يقلّب النصوص والتجارب لبيان رأيه فيها.

علي الجندي سليل عائلة ثقافية عريقة، وقد وعى هذا الأمر، لهذا كان حرصه كبيراً  لكي يكتب الجديد المدهش القادر على التخطي والتجاوز، مثلما كان حريصاً على أن تكون مهدوفية القصيدة مشدودة إلى الرؤيا والتأمل، أعني مشدودة إلى الفلسفة، لهذا تميّزت قصيدته بأبعاد ثلاثة نفذت إليها لكي تستبطن مكنوناتها، وهي متمثّلة بالوجودية كحرية، والموت كمخاوف، والقلق كثقافة مجتمعية، ومن يقرأ مدونة علي الجندي الشعرية، وهي أكثر من عشرة دواوين، كان صدور واحدها حدثاً ثقافياً، يجد أنّ روح الفلسفة الوجودية، والتمرّد والتنمّر، والجهر بالمخالفة، وكسر ما نادت به الواقعية، ماثلة في قصيدته، ويضاف إلى ذلك إعادة تعريف الإنسان كقيمة أولى، ومعنى أول للحياة، كما سيرى أن القلق هو هواء يجول في سطور قصيد علي الجندي، كذلك سيرى كثرة توكيده مفردة الموت بوصفها نفياً للحياة والحضور.

علي الجندي، الذي عاش أكثر من ثمانين سنة (1928-2009)، ورحل في مثل هذه الآونة، شاعر، وأديب، وناقد، ومترجم، وصحفي.. أوقف حياته كلها من أجل كتابة النص الجدير بالبقاء والتباهي والاعتزاز في آن، وأوقفها أيضاً من أجل أن يتقدّم ما هو جمالي في النص الأدبي على باقي مكونات النص من قول وتأمل ورؤيا، لهذا دعا إلى استبصار النبل في الجمال.. لا في القول.

Hasanhamid55@yahoo.com