تقميش
*التّقميش لغة هو الجمْع من ها هنا وها هنا” (لسان العرب).
*الهوّة بين أجيالنا، ومَن سبقهم بقرابة نصف قرن أو أقلّ، هي هوة واسعة، في الرؤيا، والرؤية، والأخلاق، والعديد من القيم الاجتماعيّة؛ وهذا يدلّ على أنّ ما مرّ ببلدنا منذ عشريّة الخراب، وما قبلها بقليل، قد حفر كثيراً في العمْق النفسي والمجتمعي، حتى ليبدو الفالق هوّة تحتاج إلى ما يُشبه المعجزة لتجاوز ما أريد لنا، ولا بدّ لمن تذكّر أن هذا جرى في ظروف بالغة القسوة، فقد غاب، أو غُيِّب الأنموذج الأخلاقي النّظيف، وساد الأنموذج الطفيلي، المرتشي، السارق، والذي اغتنى في ظروف لا يُشكّ في أنّها عارية عن أخلاق الإسلام والعروبة، بشقّيها المسلم والمسيحي، فقاد هذا الكثيرين إلى تقليد السّائد، والميل إليه، والاقتداء به، وتلك مشكلة علاجها أصعب بكثير من إعمار ما هدّمتْه الحرب من بيوت، ويحتاج إلى البحث عن الصادقين، المؤتمنين، أصحاب الضمائر النّزيهة، فقد طغى ذلك الأنموذج المُدان، اللاأخلاقي، بحيث حين يُذكر مَن حافظ على نزاهته، ونظافة ضميره ويده، وعانى، كالأكثريّة من أبناء شرائحنا الاجتماعية، الفقر، وتوابعه المُرهِقة، حين يُذكَر.. تقال عنه كلمة احتقار مهينة، تعرفونها جميعاً، وما أدري متى يمكن الخروج من هذه الهوّة، لكنّني واثق بأنّه من المُحال دوام الحال، ونسأل الله أن يُهيّئ لقادم أفضل.
****
كنتُ عائداً من عيادة طبيب الأسنان، فقلت لسائق السيارة الذي نشأت بيننا صداقة من خلال تردّده لأخذي وإعادتي، وقد مررْنا بالعديد من مقاهي الرصيف ومن الكافتيريات، ومن الحدائق التي حُوِّلتْ إلى مكان يلتقي فيه جيل من الشباب والشابات، وكلّها مزدحمة، قلت له: “الذي أسمعه أنّ الأسعار كاوية في هذه الأماكن، والناس في ضيق شديد نعرفه جميعاً، فمن أين يأتي هؤلاء الجالسون بالنّقود”.
نفخ نفخة طويلة، وقال: “كلّ جلسة في هذه الأماكن كلفتُها لا تقلّ عن مئة ألف ليرة سوريّة”.
قاطعتُه: “ونحن في حيّ شعبيّ، ومعظم الناس فقراء، فمن أين لهؤلاء المال”.
قال: “وقد ظهرتْ على وجهه ملامح أسف: “دعْها لله، أكثر الناس لم يعودوا مهتمّين بما هو حلال، وانتشر الفساد والفسق انتشاراً مُخيفاً، وأكثر الأهل لا يعرفون أين، ولا كيف يقضي شبابهم وبناتهم أوقاتهم، ولا يُدقّقون في تصرّفاتهم”.
شعرتُ بأنّ الهوّة تزداد اتّساعاً وتفتح فمها طلباً للمزيد.
****
عبر الإطلالة التي تصلني بعالم الخارج أرصد مقطعاً يمكن القول إنّه يُفصح عمّا في بقيّة اللّوحة، إلاّ قليلاً، وما أدري ما إذا كان هذا القليل هو أفضل ممّا أراه.
– شابّة في مُقتبَل العمر تحمل كتبها وقد ارتدتْ بنطلوناً ممزَّقاً استجابة لـ “الموضة”، ولكي تبدو أنّها عصريّة جدّاً!! وتَظهر، أو تُظهِر علامات الإزعاج على وجهها إذا حملَق المارّة؟!
– وشابات في أوّل سنّ الشباب يسرْن مع شباب في مثل سنّهن وهنّ يتساررْنَ ذاهبين جائين، وأهلهنّ في غفلة، بل على ثقة من أنّ بناتهنّ جدّ مهذّبات، يمشين من شارع إلى آخر في انسجام ظاهر مع ما يفعلْن، ومعظمهنّ يقلنَ لأهلهنّ إنّهنّ كنّ عند رفيقاتهنّ، يبدو أنّ المذكَّر هنا يؤنّث حُكماً.
– تحت هذه الإطلالة مباشرة، ثمّة خفّانات أُقيمت لغرض نفعي على شكل مَقعد لشخص، أطللتُ،.. كان شابّ وشابة يجلسان متلاصقين يتهامسان بحميمية بادية على وجهيهما، ولا يُقيمان وزناً للمارّة، كما أنّ المارّة لم يعد يعنيهم مثل هذا المنظر، فقد صار مثل شرب الماء، تنحنحتُ، فالتفتا ورأياني أُطلّ عليهما من على مسافة متر ونصف، فتابعا أُنسهما حتى كأّن الافتضاح لم يعد عيباً، والمجاهرة بما لم نألفْه صارت علامة تحضّر؟!!
عبد الكريم النّاعم
aaalnaem@gmail.com