حفاظاً على التراث اللامادي.. الشعر النّبطي إلى الواجهة
أمينة عباس
فاجأ الشاعر عبد الكريم العفيدلي الحضور خلال المحاضرة التي ألقاها، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي بـ”أبو رمانة” عن الشعر النبطي بالكثير من المعلومات، خاصة ما يتعلق بولادة ونشأة هذا الشعر، فيقول: “هو شعر سوري أصيل، ولِدَ في حوران في القرن الرابع على لسان أم سلامة القيسية التي يُنسب إليها أنها أول من قال الشعر عندما قُتل زوجها فأرسلت قصيدة إلى أحلاف زوجها تستنهضهم للأخذ بالثأر، ومن الشام انتشر إلى نجد والمغرب العربي”.
وأكد العفيدلي في محاضرته أن النهوض بهذا الشعر وتسليط الضوء عليه هو للحفاظ على التراث اللامادي، وهو موجود في كل المجتمعات السورية كموروث شفاهي بقي منه القليل في صدور الحفَظَة من كبار السن، لذلك يجب تدوينه وتوثيقه وتقديمه للأجيال وهي القصيدة الحاضرة بقوة في المجتمع العربي والأقرب لهموم الناس وقضاياهم، لذلك التفّ الناس حولها لأنها جزء من موروثهم.
ويؤمن العفيدلي بأن القصيدة النبطية مهما علا شأنها لن تغلب القصيدة الفصيحة لأن الشعر النبطي مهما علا شأنه يبقى شعراً إقليمياً محدوداً بجغرافية معينة، أما الشعر الفصيح فقادر على الوصول إلى كل من يتكلم باللغة الفصيحة، والدعوة للحفاظ على الشعر النبطي هي بهدف الحفاظ على الموروث والتراث اللامادي الذي يجب أن نهتم به ونجمعه لأننا أصحاب موروث عظيم، خاصة وأن الشعر النبطي اختزن الكثير من التراث المغيّب كالأحداث والمآثر والمعارك، فكان مدوّنة ووثيقة غير قابلة للتحوير.
ومع تعدد الآراء حول أصل التسمية، لكن العفيدلي يجد أن أقربها للواقع وهو ما يميل إليه “سُمي نبطياً من الاستنباط، وهو الاستحداث واستخلاص الشيء من الشيء لأنه استُنبط واستحدِث واسْتخلص من الشعر العربي الفصيح الذي كان سانداً حينذاك في شبه الجزيرة العربية، لذلك هو أقرب ألوان الشعر الشعبي إلى الشعر الفصيح وأوزانه، حيث نجد فيه بحوراً تتلاقى معه في المسمى والتفعيلات- بحر الطويل والبسيط – ومنها من اختلف بالمسمى واستنبِطت من أوزانه وأخذت مسميات أخرى مثل المسحوب ويختلف عنه أنه لا يخضع للإعراب”.
وتوقف العفيدلي في حديثه عند خصائص الشعر النبطي قائلاً: “يخالف قواعد الإعراب في سبيل الحفاظ على وزن البيت الشعري، وهو يتميز بالابتكار في الوزن والمعنى وطرق الإلقاء، كما تدخل الفصحى في جذور مفرداته في سياق العامية أحياناً كما تقوم القصيدة النبطية على الالتزام بقافيتين في الصدر والعجز، وغالباً ما يكتب الشاعر على تفعيلات متعددة ليس بالضرورة أن تكون من ضمن البحور المعروفة”، ويضيف: “ومن أكثر خصائص الشعر النبطي البلاغية أهمية البساطة والوضوح، فهو يُكتب باللهجة العامية البسيطة والمفهومة للجميع، ويتميز بالرقة والعذوبة في صياغة الأبيات واختيار الكلمات المعبّرة، وكما الشعر الفصيح فقد طرق الشعراء النبطيون كل الأغراض كالغزل والوجدانيات والوطن، وتغنّوا بالقهوة والخيل والسيف، وهي الموضوعات المشتركة بين النبطي القديم والحديث الذي جاء بلهجة بيضاء أقرب إلى الفصحى، فكانت أكثر عفوية ورشاقة، وفيها من الفلسفة والعمق والوجدانيات والرمزية الشيء الكثير”.
وكما حال المعلقات في الشعر الفصيح هناك أيضاً معلقات في الشعر النبطي تسمى “شيخات القصيد”، يقول العفيدلي: “هنّ ثلاثة قصائد وكلّهن لقبائل عنزة، الأولى للشاعر مجحم بن محمد الصقري، والثانية للشاعر محمد الدسم، والثالثة للشيخ مشعان بن هذال، لكن في الذاكرة الشعبية السورية وخصوصاً في الجزيرة هناك قصائد عدة، عدّها الباحثون بالموروث شيخات القصيد السورية، منها قصيدة رثاء للشاعر محمود الجبوري والقصيدة المستديرة للشاعر الشيخ جلود الصليبي دوّن فيها مجريات معركة بين قبيلتين”.
ويختتم العفيدلي محاضرته بذكر أعلام الشعر النبطي قديماً وحديثاً: “ومن شعراء سورية حمد الملحم الذي ذكره عدد من المستشرقين والباشا زيد الأطرش وهو من أكثر شعراء جبل العرب أهمية، وقد دوّن بقصائده تفاصيل مهمة عن معارك الثورة السورية 1925 والشيخ جلود الصليبي والشيخ طراد بن فندي الملحم صاحب قصيدة وطنية مشهورة وجَّهها للضابط الفرنسي جوفنيل الذي أراد إنشاء مقاطعة في البادية منفصلة عن سورية، وكانت قصيدته رداً على هذا المشروع”.
وتبيّن الدكتورة رولا عقيل مديرة التراث اللامادي في وزارة الثقافة والتي حضرت المحاضرة أن ما جاء على لسان الشاعر عبد الكريم العفيدلي مهم جداً، وأن وزارة الثقافة كجهة معنية بصون التراث اللامادي تعمل اليوم على تسليط الضوء على الشعر النبطي وهي بصدد إعداد ملف عنه بعد أن تلقت دعوة من اليونسكو لتسجيله ضمن قوائم التراث الإنساني في اليونسكو.
في حين رأى الشاعر والإعلامي علي الدندح الذي أدار الحوار: “الشعر النبطي حاضر ولا استغناء عن هذا اللون الذي حفظ تاريخ أمة بعاداتها وتقاليدها وأحداثها حيث كان مع كل انتصار قصيدة نبطية توثق ما كان يجري، وقد انتقلت القصيدة النبطية في العصر الحالي نقلة نوعية مذهلة حرَّرتها من نطاق جاذبية التجربة الكلاسيكية في جوانب تخصّ الهجاء والمدح والغزل”.
يُذكر أن للشاعر عبد الكريم العفيدلي أربعة مجموعات شعرية، اثنتان في الشعر الفصيح هما “أشرعة الهمس” و”شهوة الخيال” وفي النبطي “مصور بالعشا” و”أبو هاته”.