ذاكرة المخيلة علاج الصدمات
غالية خوجة
الخروج من الآلام أشبه ما يكون بخروج النبض من نافذة عتيقة تحولت إلى منصة مسرحية تعرض مشاهدها البعيدة والقريبة على الذاكرة، فتنتفض الحالة النفسية محاولة الخروج من بطولة الذاكرة وذكرياتها إلى عالم آخر من الأحلام والخيال، وهي حالة قريبة لما يحدث في عالمنا بين الواقعي والافتراضي، مما يجعل المخيلة شخصية داخلنا مثل الكلمة وذاكرتها ومخيلتها، وهذه المخيلة تتأرجح بين موجة وفضاء، وتتأرجح معها وجداناتنا بكل عواطفها وذكرياتها المتدفقة كما الضوء من نافذة أثرية خشبية مطلة على نهر قويق، أو الجادة العتيقة، أو أطياف مجتمع كان هنا قبل حرب وزلزال وصدمات حياتية أخرى.
الصدمات وما بعدها تخلخل الحالة النفسية إن لم يتداركها الإنسان بمعالجة روحية وجسدية وعلمية ورياضية وفنية، لذلك، ينصح الأطباء بممارسة الرياضة، والاستماع للموسيقا، والمشي في الهواء الطلق، والتعرض لأشعة الشمس في التوقيت المناسب، وتغيير الاعتياد اليومي، والابتعاد عن العزلة التوحدية، وقراءة وحفظ الشعر.
ولشدة الصدمات المتوالية التي لم يستوعبها إنساننا العربي السوري، أصيب من أصيب بحالات من الكآبة والتدهور النفسي، ومن مختلف الأعمار، وهذا التدهور أصاب الذاكرة أيضاً، ولا سيما الذاكرة النفسية وهذا ما عانته أمي ـ رحمها الله ـ التسعينية الصابرة، بالإضافة إلى أمراض متعددة دائمة، والكثيرين من أبناء جيلها والأجيال الأخرى، فاصطدمت الذاكرة البعيدة بالمعاناة، وفتحت الذاكرة العاطفية نوافذها على الفراغ، ولم يعد للذاكرة القريبة سوى التأرجح بين الحضور والغياب، وتأججت آلامنا معاً في هذا الوطن الذي انتصر بوحدة شعبه وصبره وما أزهر من دماء الشهداء وجرحى الوطن.
وقريباً، من تلك الذاكرة، يأتي الصمت المتحرك، لنغوص من جديد بحالات من التأمل الاسترجاعي والمستقبلي، لنستعيد ما ذهب من أنفسنا، ونبني تلك الفراغات بأطياف من الإيجابية، لنتماسك من جديد على الصعيد الفردي والعائلي والمجتمعي.
ولا بد من مخيلة مبنية على الإرادة من أجل تجاوز الفجوات السوداء، واثقين بأن الله لن يضيع مثقال حبة خردل من حقنا ذاك الذي نالت منه الظلمات الإرهابية، والعدالة الإلهية بالمرصاد، وما علينا سوى التوكل على الله والعمل على بناء ذواتنا ومجتمعنا ووطننا دائماً من جديد.
ولا غرابة، أليست مخيلتنا أشبه بطائر الفينيق؟.
إذن، لنسابق أجنحتنا وننطلق بمنهجية فريق واحد لا تعيقه العثرات، ولا المفسدون في الأرض، ولنتقدم بروح واحدة إلى الأهداف لنصنع المستقبل الجديد.
أيها القارئ الكريم، ابدأ مع نفسك ومن نفسك لتستعيد طاقتك وتساعد الأقربين والمجتمع، واتبع التغيير المناسب لصحتك النفسية والجسدية والصحية، وجرب أن تصنع ما يفرحك لتبثّ السعادة للآخرين وتساعدهم على الخروج من صدماتهم.
وطوبى لمن يكون سعيداً كلما ساعد الآخرين حتى لو كان متألماً أكثر من الجميع، طوبى لمن يجد علاجه في فكّ كربة من كرب الآخرين، بوردة، بكلمة طيبة، بشراء الدواء، بحمل كيس عن طفل متعب، أو عجوز، طوبى لمن قلبه فراشة ترى المتألمين وروداً فتهبّ لنجدتهم ناثرة عطور المحبة والأفعال البيضاء مثل ذاك الضوء السماوي المرفرف بأجنحة من لازورد حنون وموسيقا خضراء تهطل من قلبه لتتحول بساتين وغابات وأشجاراً دائمة العطاء.
طوبى لمن يجد سعادته في العطاء لجميع المستحقين من أهله وجيرانه ومجتمعه، مفضلاً الآخرين على ذاته، وأعتقد بأن غالبية مجتمعنا السوري معطاءة ولا تنتظر المقابل إلاّ من خالقها، وتحلق بأجنحة من مخيلة ضوئية، ترفض السيف، وتحمل المعول لتزرع المحبة والسلام في بطن الأرض كما جاء في رسالتنا السورية المكتوبة على رقيم طيني منذ أكثر منذ آلاف السنين.