“كمطرٍ ملوَّنٍ أو أكثر” رواية واقعية يمزجها سمير أبو غازي بروحه الشعرية
السويداء ـ رفعت الديك
في تجربته الروائية الأولى “كمطرٍ ملوَّنٍ أو أكثر”، يلامس الكاتب سمير أبو غازي الواقع ويشابه الحياة في أروقة فصولها مع مزيج من خياله أعطى روايته سرداً وإيقاعاً متنوعاً.
وفي قراءتها للرواية تقول الكاتبة ماجدة أبو شاهين: “اختار الكاتب عنواناً غريباً ومميَّزاً، ليكونَ العتبة النصيَّة الأولى التي تخلُقُ عند المتلقِّي شغفَ القراءة، وتفتحُ شهيَّته على الإبحار في فصول الرواية لاستجلاء مضامينها، وتروي الرواية دخول الأمريكيينَ إلى العراقِ، وما رافق ذلك من مظالمَ وعنفٍ ودمارٍ، وتتحدَّث عن الممارسات اللاإنسانية التي ارتكبها إرهابيو “داعش” في العراقِ وشمال سورية، وعن الصَّحافة التي تصبح آثمةً إذا قالت الحقيقة، أو إذا خالفت المصالح العليا للبلاد، وعن القاعدة التي تصبح استثناءً في غياب الضَّمير الإنساني، وربما أراد الكاتب أن يوصل إلينا فكرة تقول بوحدة الضمير الإنساني الواحد عند شرفاء العالم، وفي الوقت ذاته، منح المرأة أدواراً صعبةً في البطولة؛ فهي شريكٌ مهمُّ وأساس للرِّجال في تنفيذ العمليات العسكرية، وهي مناصرةٌ لحقوق الإنسان”.
وتضيف أبو شاهين: “كانت الرواية ابنةً شرعيَّة لهذا العصر الذي يحتفي بالسُّرعة، ويكتظُّ بالأحداث المتسارعة والخطيرة، وليس من اليسير أبداً أن يبدأ كاتبٌ بروايةٍ موضوعها الحرب، فالرواية التي بين أيدينا اليوم تميط اللِّثام عن كثير من الحقائق والأحداث التي جرت بعد سقوط بغداد، وتمتدُّ أحداثُها بين حلبَ والبصرة بخيط مصاهرة وانتماء، وخيطِ دمٍ شدَّته الحرب، وعبقت برائحته الرواية، وإن كانت المسافة بين المدينتين قبل الحرب أقصرَ من حبل غسيل وبعض الفاكهة ـ كما كان يردُّد أبو أسعد مصطفى الحلبي ـ، لكنها بعد الحرب أصبحت غير قابلةٍ للقياس، لأنَّها باتت مثقلةً بالألم والفقدِ وغبار الحرب”.
وتبدو الرواية لقارئها وفق أبو شاهين معرض صور سنيمائية رتَّبها الكاتب وعرضَها في شريط دراميٍّ ملتهب بالحركة واللَّون والصَّوت والكلام، ففصولها لوحاتٌ يدور موضوعها حول الحرب والإرهاب في العراق وشمال سورية، وتروي بعضُ اللوحات استياءَ الجنودِ والصَحفيينَ الأمريكيينَ، مما يقومون به مكرَهين، وتعرُّضِهم للعقاب، وربما الموت إذا رفضوا تنفيذ هذه الأوامر، ويفضح على لسان جنودٍ وصَحفيينَ آخرين الممارساتِ اللاإنسانية التي ارتكبها إرهابيو “داعش” من تدمير للمشافي وتحويلها إلى مقابرَ جماعيَّة، وكيف كانوا يورِّطون الأطفال في الإجرام بإغرائهم بالطَّعام والمال والشِّعارات الرنانة المضلِّلة”.
وجاءت الرِّواية مقسَّمة إلى فصولٍ يحمل كلٌّ منها عنواناً مستقلاً، الأمرُ الذي لا يسمح للملل بالتسرُّب إلى نفس القارئ، ولا سيّما أنّ الكاتب كان صَحفياً مرّةً، و روائياً مرَّةً أخرى، ينقل لنا الحدثَ طازجاً حارَّاً، ويصف لنا الأماكن التي تدور فيها الأحداث، بحجارتها وروائحها، وروحها، مانحاً مشاعرَ متضاربة، ومستعيناً بلغته الشعرية، وبخاصةٍ في العناوين التي جعلها مداخل أدبيةٍ وجماليةٍ لفصوله، لعلَّها تخفِّف من وطأة التقريرية الصحفية والتوثيق اللذين اصطبغتْ بهما روايتُه في بعض فصولها.
وحول شخصيات الرواية تقول أبو شاهين إن الكاتب قدم لنا شخصيات الرواية بطريقة حكائية حين يسرُدُ أخبارَها بنفسه، أو يتركُ لها أن تعرِّف بنفسِها كما فعل في شخصية “أسعد” في الصفحةِ ( 21): “اسمي أسعد.. حين ولدت وُلدتْ معي الطبيعة والألوانُ، ولدت معي ألوانُ الحرب.. وربَّما حشد على لسان شخصياته كثيراً من التفاصيل التي تخدم الرواية في أثناء سردها للحدث، ولم يقحم الكاتب نفسه في حوار شخصياته ولا في ما يقومون به، فحقَّق لها بذلك الاستقلالية والفرادة بعيداً عن ذاتيته.
أمّا البطولة، فوزَّعَها الكاتب بين شخصياتٍ عدَّةٍ قادتْ معاً دفَّة الأحداث في الرواية، ومضتْ تجدِّف بها، لتصل إلى شاطئ النهاية، وانصبَّ اهتمامُه على الشَّخصيات الإيجابية التي تتحلَّى بالشجاعة والغيرة على الوطن، مثل شخصية “ريتا” الممرضة الحلبية، والناشطة الحقوقية التي تعرَّفت إلى “خالد” وهو عراقيُّ الأصل عندما أصيبَ ونقل إلى المستشفى في حلب، في أثناء زيارته لها، فتحابا وتزوَّجا وسافرت معه إلى البصرة وهناك انخرطت في المقاومة العراقية لتنقذ زوجها من أسر “داعش”.
وتشير أبو شاهين إلى ذكاء الكاتب الذي لوَّن أساليبه في بناء شخوصه الروائية، فهو يسرد لنا مثلاً أخبار الشاب “نورس” على لسان والدته الكاتبة بعد أن جعلت منه كائناً ورقياً يعيش في صفحات روايتها، وذلك بعد غيابه عنها أكثر من تسع سنواتٍ ولم تعرف عنه شيئاً لكنها ظلت على قيد الأمل، وقصَّت علينا في أخباره التي تعرفها وسماتِه.
وفي قراءتها للحدث الروائي، تجد أبو شاهين أن الكاتب اهتم ببناء شخصيات روايته بصورةِ مستقلَّة كل منها على حدة، من دون إسهام أيّ منها في نموِّ شخصيةٍ أخرى، ولم يسعَ إلى بناء الحدث الروائي تدريجياً على أيدي شخصيات الرواية، فبناء الشخصيات يجب أن يكون في سياق بناء الحدث الروائي، لكنَّ الأحداث التي ساقها الكاتب كانت ناجزةً، أخبرنا بها وعلَّق عليها، من دون أن يرى القارئ أو يشعر كيف تطوَّرَتْ هذه الأحداث، أو يعيشَ رعشةَ المغامرةِ، أو لهفة التشوُّيقِ عند العقدة، أو خيبة التوقُّعِ، أو سعادة الانفراج عند الحلِّ.
وما لفت أبو شاهين هو لغة الرواية، فعلى الرغم من طبيعة الرواية التي تتحدَّث عن الحرب وملابساتها وظروفها ونزيفها البشريِّ، لكنَّ الكاتبَ أبو غازي لم يستطع إقصاء لغته الشِّعرية عن بعض مشاهد روايته، بما في لغة الشعر من إيجازٍ وتكثيفٍ ورشاقة العبارة، فجاءت لغته رشيقة حارَّة مكتظة بالمشاعر المتضاربة إلا أنَّ هذا الإيقاع السريع للكتابة كان يخفتُ أحياناً، ويغرق الكاتبَ في التفاصيل، وبخاصَّة في مشاهد الوصف، وفي أحيانٍ قليلةٍ أخر كانت تميل لغةُ الرواية إلى المباشرة والتقريرية، وكثيراً ما كان الكاتبُ يطعَّم روايته باقتباسات لكبار الكتاب والروائيين والمفكِّرين، والشعراء، أمثال “كازنتزاكي”، و”كونديرا”، و”سرفانتس”، و”كويللو” وغيرهم، وأحياناً كان يوظِّف الأسطورة لخدمة فكرته، مثل أسطورة “بيغماليون”، التي استحضرها عندما تحدَّث عن النَّحات السوريِّ رفعت شمس، ومنحوتته التي رفض أن يبيعها لفرط تعلُّقه بها.