تحقيقاتصحيفة البعث

أفراد “عائلة المونة” تختفي من الموائد.. و”المكدوس” بات حكراً “لمن استطاع إليه سبيلا”

ليندا تلي

تسعى ربات البيوت في موسم المؤونة إلى ملء رفوف وخزائن مطابخهنّ بما لذّ وطاب مما جاد به الصيف من خضراوات وفواكه مجفّفة أو مطبوخة أو مبرّدة، سواء ربّ البندورة أو المربيات والكشك والملوخية، ولكن يبقى أهمها “المكدوس” الضيف الشعبي على موائد الأسر، لكن اليوم وبالعودة بعجلة الزمن إلى ثلاث أو أربع سنوات خلت بات هذا الضيف وغيره من “أفراد عائلة المونة” لمن استطاع إليه سبيلا!.

حسرة وأسف

لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين، هكذا بدأت “فاطمة” حديثها مبرّرة عدم تخزينها مؤونة الشتاء كي لا تكرّر مأساة العام الماضي بإلقائها كاملة في الحاويات جراء الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي، وغلاء أسعار المواد التي يُفترض أن تكون رخيصة الثمن باعتبارها منتجاً محلياً، وفي عزّ موسمها، وفق وصف السيدة التي تابعت حديثها بحسرة على عدم قدرتها صنع المكدوس ولو خمسة كيلو، حيث بلغت تكلفة المكدوسة الواحدة بجردة حساب وسطية ألفي ليرة سورية، في حين أسفت “ريما” للحال التي أرغمتها على الاكتفاء بصناعة 4 كيلو من المكدوس بعد أن كانت المطربانات تزيّن رفوف مطبخها، حيث بلغت تكلفتها نحو 200 ألف ليرة، موزّعة على 4 كيلو زيت نباتي بسعر 95 ألف ليرة و4 كيلو باذنجان بسعر 2500 ليرة للكيلو الواحد و50 ألفاً لكيلو الفستق العادي و50 ألفاً لكيلو الفليفلة المعصورة و60 ألفاً لكيلو الثوم البلدي وكيلو ملح صخري بـ2500 ليرة، فما بالك بتجهيزات الأولاد للمدرسة؟!.

ارتفاع جنوني

عبد الرزاق حبزة أمين سرّ جمعية حماية المستهلك لم ينكر كثرة النفقات التي تُرافق موسم المؤونة بسبب تزامنه مع افتتاح المدارس التي تُثقل كاهل الآباء، حيث ارتفعت الأسعار في آخر خمسة عشر يوماً نحو 80 إلى 100 بالمائة، مثل البندورة التي أصبحت حلماً لمن يرغب بصناعة ربّ البندورة بعد أن وصل سعر الكيلو إلى 12 ألفاً وهي غير صالحة للعصر، وكذلك المكدوس الذي يتطلّب زيتاً وغازاً وجوزاً وثوماً وفليفلة، وجميعها ذات أسعار كاوية، أرجعها حبزة إلى ارتفاع حوامل الطاقة ونقل المواد وارتفاع أسعارها وارتفاع تكاليف زراعتها، وحرمان الفلاحين من مُخصّصاتهم من مادة المازوت وشحّ المياه أحياناً، إضافة إلى ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وارتفاع أجرة العمالة، حيث أصبحت أجرة العامل تقارب 120 ألف ليرة يومياً.

احتكار المواد

وحمّل حبزة التّجار بمختلف مسمّياتهم نسبة 50 بالمائة من ارتفاع الأسعار من خلال احتكار المواد، وعدم انسيابها في الأسواق، والباقي تتحمّله الحكومة من خلال عدم دعمها للفلاح، وغياب التدخّل الإيجابي الحقيقي خلال موسم المؤونة من خلال تخفيض أسعار المواد أو بيعها بالتقسيط، وكذلك توريدها عن طريق الفلاح بدون وسيط، وانخفاض دخل المواطن مع التضخّم الكبير بالأسعار.

غير مُستساغ

فيما مضى كانت الأمهات تصنع المكدوس بكميات كبيرة وتوزّع لأولادها وعائلاتهم، أمّا اليوم ففي أحسن الأحوال تصنع 10 كيلو منه، وهذا الواقع أكّده حبزة، إذ إنّ تكلفة عشرة كيلو من المكدوس تقارب 600 ألف ليرة، فهي تحتاج 3 كيلو زيت على الأقل بسعر 350 ألف ليرة، وكيلو جوز بـ120 ألفاً، ونحو 50 ألف ليرة فليفلة، والثوم الذي بلغ سعر الكيلو منه 60 ألفاً، في الوقت الذي بدأ يرتفع سعر الباذنجان بعد أن كان بـ2000، يُضاف إليها تكلفة الغاز، ورغم ذلك تحاول الأمهات التحايل على الواقع بغية صنعه من خلال استعمال الزيت النباتي بدلاً من زيت الزيتون لتخفيف التكلفة، غير أنّ هذا الأمر مُستحدث بالنسبة للسوريين بسبب الغلاء الفاحش، مشيراً في معرض حديثه إلى أنّه من غير المستساغ أكل الزيت النباتي نيئاً، وهو لا يتناسب مع ذوق السوريين باعتبار أنّ المكدوس تتمّ صناعته لتغذية الإنسان وليس للضرر بصحته، إضافة لاستبدال الجوز باللوز أو الفستق للتخفيف أيضاً من التكلفة رغم عدم رخص سعر الأخيرين، ولكن في المحصلة هذا التحايل يفقد المكدوس فائدته واسمه أيضاً.

من الكماليات

ولم ينكر حبزة ما يتكبّده المواطن، إذ باتت المؤونة من الكماليات، وصار المكدوس مجرّد شهوة ومعظم البيوت السورية تفتقده، وإن حالفها الحظ فيتمّ الاكتفاء ببضعة كيلوات وبمكوّنات بديلة من فستق عبيد وزيت نباتي، والشيء ذاته يندرج على الملوخية التي كان سعر الكيلو تسعة آلاف فأصبح اليوم 18 ألفاً، والبامية التي كان سعر الكيلو منها 13 ألفاً باتت اليوم بـ24 ألفاً، والبندورة التي كان سعرها 5 آلاف أصبحت اليوم بـ12 ألفاً.

مزاجية التجّار

وحمّل أمين سر جمعية حماية المستهلك جزءاً كبيراً من الواقع المؤلم الذي يعيشه المواطن إلى الحكومة لعدم رفعها دخل المواطن الذي لا تتجاوز يوميته عشرة آلاف، وهي لا تكفي لشراء قطعة بسكويت، وعدم التدخل الإيجابي رغم كثرة مؤسّساته التي يتمّ رفدها بمئات المليارات حتى يتمّ دعم المواطن، فهي تستجرّ من التجّار مباشرة وتبيع إلى المستهلك بنسبة ربح مخفّضة، والأسعار في الأسواق حسب مزاج التاجر خاضعة للاحتكار ولعدم انسيابية المادة والتخزين، وهذا ينسحب على كافة المواد.

 إنفاق يفوق الدخل

اعتادت بلادنا التي تعرّضت لحقبة من الحروب والحصارات على الكثير من السلوكيات الاقتصادية التي تسعى لتحقيق الأمان الاقتصادي الأسري، ومنها التخزين، وفق ما ذكر الخبير الاقتصادي فادي حمد، حيث كان يسعى الأشخاص إلى تحقيق مخزون من مواد تقيهم من ثقل الشتاء وعدم وفرة الكثير من المنتجات إلى التخزين الذاتي، حيث لا يتواجد تبريد ولا مؤهلات التخزين في الماضي، ممّا حوّل طرائق التخزين المنزلي لغاية تجميد الكثير من المنتجات بمبدأ الوفرة في الشتاء، وبما أنّ منازل الكثير من السوريين تتأثّر بواقع الكهرباء فهم يلجؤون لتخزين أشياء لا تحتاج كهرباء مثل المكدوس والبامية وغيرها التي أصبح صنعها عبئاً كبيراً على المواطن، حيث لا يمكنه مجاراة التضخّم للتخزين، فهو يملك القليل ويُكثر في الإنفاق، لذلك ميزانه التجاري خاسر فعلاً، وحجم إنفاقه يفوق دخله.

غياب مقوّمات التحايل

وفيما يخصّ التحايل على الظروف الاقتصادية الحالية، قال حمد: قلّة هم من يستطيعون التخزين، حيث لجأ الكثيرون إلى تغيير المواصفات لتخفيف التكلفة كمثال وضع الفول السوداني عوضاً عن الجوز، واستبدال زيت الزيتون بالزيت التجاري والصويا وغيرها، كمثال وجود المادة مع تغيير المواصفات ليوهم المواطن نفسه أنّه مستعد للشتاء ولديه عامل أمان معيشي للضرورات، وختم حديثه بملاحظة فحواها أنّه ليس كلّ شخص قادراً على التحايل على الظروف الاقتصادية الحالية، حيث إنه لا يملك مقوّمات التحايل بالأصل.

وحمّل حمد مسؤولية ارتفاع الأسعار إلى ضعف الإدارات التنفيذية والعاملة على الأرض، وبالوتيرة نفسها غياب الرقابة الحقيقية، وكذلك بعض التّجار أصحاب النفوذ وأصحاب رؤوس الأموال الذين يجعلون من السلع عوائد ربحية عالية تغنيهم عن وضعها في البنوك من خلال تخزينها واحتكارها.