“ماذا يريد البعث”؟ و”ماذا نريد من البعث”؟
بسام هاشم
في وقت يطرح البعثيون على أنفسهم سؤال “أي بعث نريد؟”، تطرح الغالبية الساحقة من السوريين سؤال “ماذا نريد من البعث؟”. وفيما يبدو السؤال الأول طبيعياً ومألوفاً في مرحلة يراها البعث – ويريدها – مفصلية في تاريخه وتاريخ سورية، يحيل السؤال الثاني – وإن مواربة – إلى حقيقة أن “البعث” و”مستقبل البعث” مسألتان تعنيان السوريين على اختلاف انتماءاتهم وتطلعاتهم، وتتجاوز مجرد علاقة بين حزب حاكم وبين عموم السوريين الذين باتوا لا يرون في “البعث” حزباً سياسياً وحسب، بل طيفاً واسعاً من العلاقات والتشابكات التي تحكم الحياة العامة إلى حد كبير، و”تشكيلاً” وطنياً عابراً لمختلف الشرائح، وله تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على كافة مستويات الحياة السورية، الأمر الذي يعكس حقيقة أن البعث تحول، خلال العقود الأخيرة على الأقل، وخاصة مع سنوات الحرب، إلى “فضاء” عريض وواسع، هو أكبر من حزب وأقل من تحالف، يضم في صفوفه تيارات وشرائح متباينة اجتماعياً، ومتفاوتة اقتصادياً، وقد تتعارض في أساليب معالجة بعض القضايا الداخلية، وهي قضايا اقتصادية ومعيشية وإدارية في الغالب، ولكنها تلتقي على نزعة وطنية قوية قد تعبر عن نفسها بأساليب من التهكم والسخرية وتقريع الذات في مواقف كثيرة، غير أنها تجمع، في العمق، على التمسك العنيد بالاستقلال والسيادة الوطنية.
إن طرح الأسئلة، أياً كانت، لا يمكن إلا أن يزيد البعثيين شعوراً بالمسؤولية الوطنية والمجتمعية، إلا إنه يعبر، بالمقابل، عن درجة متقدمة جداً من التناغم السياسي بين الحزب ومختلف شرائح ومكونات المجتمع، وهو تناغم يمكن أن نرى فيه، في جانب ما، نوعاً من ردة فعل عكسية تفضح تخرصات دعاة الحرب، والمروجين لها، وكل أولئك الذين أدمنوا، طوال سنوات، على التلطي وراء ذرائع بائسة لتخريب “وطنهم” – إن كان لديهم أساساً ذرة من الشعور بالوطنية – ولكنه تناغم يشي، في العمق، بأحد عناصر الخصوصية السورية، وهو الحضور القوي والراسخ للشخصية الوطنية، الحاضرة تقليدياً، ولكنها اتخذت في أتون المواجهة مع الإرهابيين والمرتزقة، ملامح أكثر حدة وبروزاً.
والحال، ليس البعثيون فقط من يراهنون على إحداث التغيير في حزبهم، فالسوريون يطرحون الرهان نفسه. وهذا إن دل على شيء فهو يدلل على “وحدة حال” من طراز خاص، سواء اتخذت شكلاً رسمياً أم لم تتخذ، وبوجود “المادة الثامنة” أم عدمه، كما يضيء على واحدة من الحقائق الأساسية التي تحكم عملية التغيير الجارية داخل الحزب، وهي أن “البعث” بات حزباً “وطنياً” بالمعنى الذي تمحضه، عادة، لحظات إعادة التأسيس الشاملة؛ ورغم أن علينا الاعتراف بأن الحرب على سورية سرّعت هذه السيرورة، إلا أن من المهم الإشارة، بالمقابل، إلى حضورها التاريخي، ذلك أن القائد المؤسس حافظ الأسد كان قد أكد منذ ثمانينيات القرن الماضي، بـ “أننا في هذا الوطن لسنا جميعاً حزبيين ولكننا جميعاً بعثيون” بدرجات، ومن ومسافات، متفاوتة.
لقد ودّع الحزب المادة الثامنة ومقولة الحزب القائد، وتتبنى أدبياته اليوم مفهوم الحزب الحاكم، بالإحالة إلى فصل السلطات وتنظيم العلاقة مع السلطة التنفيذية، ولكننا عملياً سنبقى أقرب إلى حزب “غالبية مهيمنة”، ليس بمعنى السيطرة أو التحكم، بل بمعنى تسيّد المناخ السياسي العام، ونشر ظلال الوطنية السورية في جنباته، بحيث تفرض “روح البعث” نفسها في سياق علاقة استيطانية تجعل منها أحد مكونات الهوية الوطنية السورية.
واليوم، وفي استعراض سريع لبعض الأوراق الداخلية، بوسعنا التأكيد أن “البعث” يخوض عملية “تحديث تاريخية ترتبط بقضايا أساسية لها صفة الأولوية”.. “من بينها إعادة النظر بالوضع التنظيمي للحزب وإحداث تحول في حياته الداخلية، بما يشمل العلاقة بين الحزب وممثليه في السلطة والمجالس التمثيلية .. والتي مازالت تعيق عمل الحزب، وقد تضعه في مواجهة مع الرأي العام والمجتمع”.. “وهو ما يؤثر على سياسة الحزب وتاريخه وجماهيرتيه”، وكذلك “الملاءمة الفكرية الموضوعية للحزب مع قضايا المجتمع”، وخاصة الأجيال الجديدة التي يفترض أنها أكثر مرونة وانفتاحاً وأقل انغماساً بالبيروقراطية الحزبية.
ورغم أن البعث يجازف بوضع نفسه في مرمى اتهامات البعض بـ “التنازل”، فإن له من الشجاعة الأدبية والسياسية ما يدفعه للمبادرة بالإصلاح الذاتي انطلاقاً من القناعة بأن “الأحزاب الناجحة هي التي تكسب ثقة المجتمع ودعمه، لا أن تسعى لتحزيبه لصالحها، فالمسألة ليست عدداً في التقييم النهائي”.
يعمل البعث على “فهم طبيعة الواقع الجديد وبناء استجابات سياسية واجتماعية موضوعية له، استناداً إلى رؤى وأدوات جديدة”؛ وما يريده لا يتعدى تكريس خبرته وتجربته السياسية الوطنية للمساهمة في بناء سورية المتجددة، والنجاح في تحقيق مشروعه الوطني والقومي بأهدافه السامية التي تتطلع إليها الغالبية من جماهير شعبنا وحزبنا خاصةً في هذه الظروف الصعبة محلياً وعربياً وعالمياً.