العامل النفسي يتغلب على المزايا القانونية والمالية ويكبل تحول “العائلية” إلى “مساهمة”
حسن النابلسي
لعل أدق وصف لما اتسم ويتسم به قطاعنا الخاص على مدى عقود خلت بأنه وللأسف مبعثر ولا يؤمن بالتكتلات، وربما يعود ذلك للوضع الاقتصادي الذي كان سائداً قبل التوجه لاقتصاد السوق الاجتماعي والاعتماد على الاقتصاد الموجه، لكن اللافت أنه حتى بعد اعتماد اقتصاد السوق وصدور المرسوم رقم 61 لعام 2007 وما قدم من امتيازات مشجعة لتحول الشركات العائلية إلى مساهمة، لم يكن تجاوب القطاع الخاص مع معطيات الواقع الجديد بالمستوى المطلوب، حيث كان هناك خشية من هذا التحول، ثم جاءت الأزمة لتزيد تبعثره تبعثر، وفي هذا السياق نرى أن في طيات الأزمة رسالة لابد من تلقفها وقراءة ما بين سطورها، فحواها أن التكتلات الاقتصادية الكبرى أكثر صلابة من نظيراتها ذات الطابع العائلي مئة بالمئة..!، لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بقوة مثل هذه التكتلات لاسيما من جهة علاقاتها العالمية والإقليمية، وما ينتج عنها من مصالح اقتصادية ومالية مشتركة مع النظراء العالميين والإقليمين، وبالتالي انعكاس هذا الأمر على ديمومة هذه التكتلات وتوسيع نشاطها الاقتصادي، وأيضاً على الاقتصاد الوطني، بدليل أنه عندما تطرح الدولة مشروعاً ضخماً بقيمة 500 مليون دولار على سبيل المثال، لا يوجد في القطاع الخاص من يستطيع أن يأخذ هذا المشروع وحده، وبالتالي على القطاع الخاص أن يتكتل ضمن مؤسسات فاعلة، بدلاً من أن تأتي الحلول من الخارج وتقوم بمثل هذه المشروعات مؤسسات عالمية أو إقليمية..!.
لا نأت بجديد..ولكن..!.
مؤكد بأننا لا نأت بجديد بقولنا بأن الحديث عن التكتلات الاقتصادية الكبرى بات أمراً يفرض نفسه بقوة في أغلب المحافل الاقتصادية العالمية، حتى أن البعض بدأ يستخدم مصطلح (عصر التكتلات) خاصة بعد اندماج عدد من الشركات العالمية لتصبح شركة عملاقة عابرة للقارات، إضافة إلى ظهور الشركات القابضة التي بدأت تنتشر في أغلب دول العالم لدرجة أن الاقتصاد العالمي أصبح شبه مندمج نتيجة تشعب العلاقات الاقتصادية، وما طرحنا لهذا الموضوع في هذا التوقيت بالذات إلا من منطلق الاستشراف في ظل الحديث عن الإعمار وما يتطلبه من أدوات متجددة لضمان تجدده باستمرار.
جدل..!.
لا يزال موضوع تحويل الشركات العائلية إلى مساهمة عامة يثير كثيراً من الجدل في سورية، نتيجة تخوف بعض أصحاب الشركات من أن يغبن تاريخهم الاقتصادي العائلي عند إعادة تقويم أصول الشركات، وخاصة المعنوية منها (الاسم التجاري) إضافة إلى أسباب أخرى تحول دون هذا التحول لخصها بعض رجال الأعمال مرتبطة بموضوع الضرائب، حيث أن بعض الشركات تخشى في حال تحولت إلى مساهمة عامة أو أي شكل من الأشكال القانونية واستفادت من مزايا التخفيض الضريبي إلى 1% أو 2%، وأراد أحد الشركاء الجدد بعد التقويم الجديد أن ينسحب، سيطبق عليه ضريبة الأرباح الرأسمالية التي هي 28%.
نفسي..!.
كما أن التخوف من التحول يرتبط بالعامل النفسي في الوقت الحالي، ويستبعد أن يكون له علاقة بالناحية القانونية والمالية، لاسيما أن التشريعات أصبحت تساعد بل تسهل وتشجع على التحول، لكن الأمور نفسية أكثر منها اقتصادية، تماماً كفنان تشكيلي يأبى أن يبيع لوحات رائعة رسمها وفق مواصفات إبداعية تلقى رواجاً منقطع النظير على المستوى العالمي لأنه يشعر بأنها جزءاً منه ويتمسك بها كثيراً، فما بالكم بشخص أسس شركة، فمن الصعب بالنسبة له نفسياً وليس اقتصادياً أن يشارك الآخرين بشركته، علماً أن التحول أفضل من الناحية الاقتصادية للشركة وصاحبها، حيث يمكّنه ذلك من توسيع أعماله في المستقبل، فالعوائق نفسية أكثر إذ أن ثقافة التحول ليست موجودة حالياً، ويعوّل رجال الأعمال الذين التقتهم “البعث” على تعميم هذه الثقافة شيئاً فشيئاً لاسيما أن التحول يوفر مصادر تمويل تساعد في توسيع أعمال الشركة، ويوفر قاعدة القرار والهيكلية، إضافة إلى الميزات الضريبية، دون أن يخفوا مخاوفهم تجاه الاسم التجاري أو الأصول العبقرية مشيرين إلى ضرورة توضيح آليات تقويم الاسم التجاري.
مزايا
يبين الاقتصادي الدكتور علي حسن أن للتحول تأثير كبير جداً على الاقتصاد الوطني حيث أن المساهمة هي قادرة على الاستمرار أكثر من العائلية لفترة زمنية أطول، بينما العائلية قد تنعدم في الجيل الرابع، ونادراً ما تستمر، إضافة إلى مشكلة التمويل الذي يعد أحد أهم المصاعب التي تواجه الشركات العائلية، حيث تلجأ إلى القروض ورهن عقاراتها.. الخ، بينما الشركات المساهمة يمكن أن توفر هذا التمويل من خلال الأسهم وإدخال شريك، ومن ناحية أخرى يوضح حسن بأن التحول كفيل بإعادة توزيع الدخل فبدلاً أن يكون محصوراً بيد شركات عائلية أو نسبة معينة من السكان، فإن القاعدة الشعبية للمالكين تزداد في حال التحول، وبالتالي يكون الكل حريصون أن يساهموا في الإنتاج وهذا كله ينعكس على الاقتصاد الوطني.
إلى أصحاب الشأن
تبين بعض الإحصائيات أن 30% من الشركات العائلية تستمر للجيل الثاني، وأن 10% فقط تستمر للجيل الثالث، مما يعني أن الاقتصاد كله في خطر نتيجة انهيار مثل هذه الشركات، لذلك ظهرت الضرورة لإيجاد طرق وأساليب تضمن استمراريتها وانتقالها من جيل إلى جيل، فهذه المسألة لا ترتبط بمؤسسيها ومالكيها فحسب، وإنما هي قضية اقتصادية وطنية عامة، الأمر الذي يدعو المعنيين وأصحاب الشأن أن يقوموا بخطوات جريئة في الاتجاه، لاسيما في ظل تحرر التجارة العالمية وازدياد المنافسة بين الشركات، وهذه الخطوة قد تساعد على الوقوف على أرض اقتصادية صلبة متينة، تكون نقطة انطلاق جديدة في عالم لا يعرف إلا قانون شريعة الغاب حتى في عالم الاقتصاد.