سركون بولص يستعيد إشارات الماضي ويقدمها برؤى تشكيلية خاصة
هويدا محمد مصطفى
يقدّم الفنان سركون بولص ثمرة وخلاصة بحثه التشكيلي والتقني، مؤكداً قدرته على خلق عوالم واقعية وانطباعية وتعبيرية ورمزية من خلال تجسيد الأشكال الإنسانية والحيوانية والمعمارية وعناصر الطبيعة بحركتها المتجاورة والمتداخلة أحياناً، ويعمل في أوقات كثيرة على تدرجات لونية محدّدة ومختارة بعناية وتقنية وموزعة بعفوية تأليفية مركزة، تصل إلى حالة العقلنة التي تتوازى مع التأليف التلقائي والعفوي.
ويستعيد بولص في لوحاته ورسوماته مختلف المواضيع والعناصر التراثية، المرأة والرجل والطفل ومشاهد الطبيعة والزهور والطيور والقطط والجمال والأسماك وغيرها، ليطرح من خلالها تنوعاً في التقنيات أيضاً: زيت، وأكريليك، ومائي، وغواش، وأقلام مختلفة، ليصل في صياغاته العفوية والمختصرة إلى تداخلات تعبيرية غذّتها تطلعات ثقافة فنون العصر.
في لوحاته ورسوماته القلمية المتنوعة تحضر المرأة بلباسها الشعبي، والعناصر المحلية.. إنها ملامح من مؤشرات التفاعل مع الحلم الشرقي، الذي لا يزال على الرغم من كلّ الغربة، التي نعيشها حياً في نفوسنا وذاكرتنا وقلوبنا، وفي تطلعاتنا المشرقة نحو الحداثة، ويستفيد من قدراته الخطية هذه، فيقدم مثلاً المرأة والطيور وقوافل الجمال، بخطوط رشيقة ومرنة، وقد يتخذ من الأجزاء أشكالاً رمزية، يعتمد في تحريكها على إبراز التعبير الذي يريد إيصاله إلى عين المشاهد.
وأكثر ما يميّز تجربة بولص الغزارة في الإنتاج التي تؤكد حيوية موهبته، فأينما ذهب لا ينقطع عن الرسم، حتى على قصاصات ورقية، وبرؤوس أقلام رفيعة، وهنا يقدم رسومات يتفوق فيها على العديد ممن يحترفون الرسم الصحفي “الموتيف”، وكل ذلك يؤكد هاجس عشقه المزمن للرسم، الذي نما معه منذ أيام طفولته، حين كان أساتذته يطلبون منه إنجاز مجلات الحائط المدرسية، ولأنه يرسم بمحبة وبسهولة وبصدق مطلق، امتلك مهارة وسرعة في الأداء، إذ أقام نحو 23 معرضاً فردياً، علاوة على مشاركاته الدائمة في المعارض الجماعية الرسمية والخاصة، وتتحوّل الحركات الإنسانية أحياناً إلى حالات لحظوية وسكونية، وهذا له علاقة بالجانب الروحاني أو بالرمز الصوفي المثبت في أقسام متفرقة من اللوحة، عبر مساحات الضوء الساطع، الذي يعيدنا إلى نورانية وروحانية قادمة من مخزون ذاكرته البصرية، وتالياً يشدّنا دائماً نحو الوهج والإشراق والنور المحلي، لالتقاط لحظات روحانية هي في الأساس موجودة في الأمكنة التي شهدت طفولته وفتوته وشبابه في قريته الوديعة بين أشجار الصفصاف ودوالي العنب والمطلة على نهر الخابور.
وإذا بدت تكويناته أحياناً هندسية تقطيع اللوحة إلى ما يشبه المربعات والمستطيلات والخطوط الشاقولية والأفقية، يجنح في النهاية بهندسته البصرية نحو تسجيل حالات ورؤى ذاتية داخلية، تتفاوت بين لوحة وأخرى، حسب أحاسيسه ودرجة انفعاله، وهكذا يختصر عناصره ثم يقدّمها في لوحات متنوعة المناخات والحساسيات والدرجات اللونية، ليعبّر عن قصة واقعية أو حكاية أسطورية مسحوبة من مخزون ذاكرته الطفولية، وهو في كل ذلك يستعيد إشارات الماضي الحضاري المكتنز بالرموز الشعبية، ويقدمها برؤى تشكيلية حديثة وخاصة، تحمل خصوصية أو بصمة المكان.
هكذا نجد أن تشعبات بحث الفنان سركون التشكيلي، فرض المزيد من التعمّق في دراسة جوهر الفنون الشعبية، والتفاعل مع إيقاعات العمارة الريفية والقديمة المعرضة لمخاطر الاندثار، والتي نجدها في خلفيات بعض لوحاته ورسوماته، فأعماله المستوحاة من علاقته المباشرة وغير المباشرة، مع العناصر المعمارية القروية والقديمة، أراد من خلالها توجيه تحية إلى الجمالية الهندسية الباقية في مشاهدات القناطر والأقواس والجدران القديمة.. إنه يبحث عن مناخات محلية في خطوطه وحركة ألوانه، كل ذلك بصياغة تشكيلية حديثة، تزاوج ما بين إشارات الواقع المستمد من انطباعات الذاكرة وتكاوين المنطلقات التعبيرية في أبجديتها الغنائية، التي يجسّد من خلالها تنويعات الأشكال المختلفة، ويبرزها كعناصر متجاورة ومتتابعة وحديثة وبعيدة كل البعد عن المنهج التزييني البصري، حتى لا يقع في الانضباط العقلاني البارد الذي يعمل دائماً على تجنبه.
وهذا يعني أنه يبدو أكثر اتجاهاً نحو البحث عن إيقاعات وجدانية وعاطفية، تنحو إلى لغة بصرية لونية وخطية وتعبّر بتلقائية عن انفعالات غنائية، وتصل بالرؤى التعبيرية والرمزية، إلى انفلاتات خيالية مفتوحة على جماليات عصرية، تنتمي إلى ملامح المناخ المعماري الشرقي، الذي يحتفظ بروح التراث المحلي، على الرغم من ذلك الكسر الذي يبعد المشهد عن التدقيق التسجيلي، فالمهمّ بالنسبة إليه أنه يجسّد مواضيعه، ويستعيد إشارات العناصر المحلية، بالارتداد إلى الداخل، ليخرجها من حيز صمتها وليجددها أو يستنطقها بالبوح اللوني العفوي، ولهذا تتدرج الحركة الأدائية، صعوداً وهبوطاً عبر تدرجات الحالة اللونية، من تلك التي تتجه نحو العفوية المنفعلة، من خلال اللمسات المتتابعة والمباشرة، إلى اللمسات الهادئة وبذلك يحقق في اللوحة الواحدة، جدلية العلاقة المتبادلة والمتداخلة والمتوازنة بين الوعي والانفعال اللوني والخطي.
وفي حواري معه، استعاد بولص مآسي التدمير والتهجير الذي طال قريته كبر شامية و33 قرية في منطقة الخابور بمحافظة الحسكة، وروى لي كيف قتل الإرهابيون وأسروا العديد من سكانها، الشيء الذي يؤكد هول الكارثة الإنسانية، التي تركتها الحرب المدمرة على المجتمع السوري، ولهذا لا نبالغ حين نقول إنها كانت الأشرس في كل تاريخ سورية، وتجاوزت ما أحدثته جحافل وهمجية التتار والمغول والبرابرة، وعلى الرغم من أنه لا يزال يعيش في قلب المأساة، بعد إحراق محترفه وتهجيره إلى مدينة اللاذقية، فهو لم يتوقف عن الإنتاج والعرض، ولقد برزت جرائم القتل والدمار والخراب والتهجير في العديد من لوحاته ورسوماته، حيث نجد تعابير الهلع والخوف والحزن في ملامح الوجوه وتعابير العيون، وهو حين يرسم السمكة خارج الماء، على سبيل المثال، فهدا يعني أننا في واقع غير طبيعي، وفي عالم غير إنساني.