خالد الأسعد في الذكرى التاسعة لقيامة مجده
تمّام بركات
اليوم يكون مضى على رحيل عالم الآثار السوري خالد الأسعد تسع سنوات، الرجل الذي رفض بدمه أن يسلم الأمانة التاريخية الكبيرة التي حفظها لعقود، إلى لصوص الدم وقتلة البشر والحجر، فكان أن دفع حياته ثمناً لحفاظه على إرث تدمر العظيم من آثار ومخطوطات ورقم، تضمن عليها متحف تدمر الذي كان يديره بحس أبوي أولاً، وشعور عالٍ بالمسؤولية الكبيرة، على ما ائتمنته هذه البلاد عليها، ففعل بروحه.
أتخيله جالساً على كرسي من مرمر بين أعمدة تدمر المهيبة، تشرق شمس زنوبيا وتطالع نظراته، فيتوضأ بحبه لهذه البلاد وإرثها التاريخي الحضاري الكبير، عن يمينه تقف قلعة تدمر تحرس الزمان، وعن شماله يتدفق التاريخ السوري العظيم من اللقى والمحفوظات التاريخية التي خطها سوريون في ماض من الزمان ليخبروا عن الآتي منه، يبتسم لكل حبة رمل تحملها نسمات الصبح العليلة في البادية السورية، تمر أمامه وتسلم عليه، فالرجل يعرف تلك البادية كما يعرف تجاعيد وجه أمه، وتخبره حجارتها عن أحوالها في مطلع كل شمس فيربت عليها كما ربت على أولاده يوماً، والأعمدة المهيبة التي شغفته حباً، ها هو اليوم على أكتافها مرفوعا كصبح لا يريم.
بعد هذا الزمن الذي مرّ، لا يزال السؤال واقفاً على مطلع الكلام وكأنه مدية تجرح عند كل حرف: تُرى لماذا أقدمت وحشية “داعش” على ما فعلته بالراحل الكبير خالد الأسعد؟ الرجل الثمانيني الذي كان ينتظر ربما موتاً هادئاً وأليفاً يليق بمن أمضى حياته يعيد الحياة لتاريخ بلاد مجيد كان مدفوناً في غارق رمل بادية تدمر؟ وأي مستقبل ينتظر كل من راهن على مغول وتتار هذا العصر من هذه الضباع البرية التي ربما تأنف حتى الضباع المشهورة بأكلها لجنسها، لفعلتهم الشنيعة بخستها وقلبها العامر بالحقد والموت؟.
حينها وقف دجالو العالم ومنافقوه من فرنسيين وأمريكيين وإنكليز، يستنكرون ما حدث؟ اليونسكو استنكرت وشجبت، بان كيمون كعادته كان قلقاً، واشنطن وضعت ذنبها بين قدميها ودفنت فيلادلفيا رأسها بالرمل، فابيوس كرجت من فمه “الأو والنو”، ولم يكن ينقص جوقة الكذب والشؤم هذه، إلا أن يخرج “البغدادي” ليستنكر بدوره! نعم خرجت شلة المجتمع الدولي لتشجب وتستنكر، لكن ما عجزوا عن إخفائه هو دماء خالد الأسعد ودماء كل السوريين التي كانت بينة وجلية على أيديهم وبين أنيابهم، تلك الدماء الذكية وقفت لتخبر عمن سفكها ودلت عليه، فهل من سبق ذكرهم إلا “داعش” بأمها وأبيها؟ وهل من يربي الوحش في حديقته الخلفية، يخشى حقاً على أزهارها من مخالبه الجاهلة؟.
خالد الأسعد بقسماته الهادئة وملامح وجهه الأليفة التي تفصح عن مكنونات روحه، قضى في المكان الذي لم يغادره حتى وهو يدرك أن من جاؤوا إليه بالذبح لن ينظروا إلى تاريخه العلمي والإنساني إلا بعين الكره والحقد الأعمى، فهذه طبائع السوريين في كل شبر من وطنهم، وهذه عناوين كرامتهم، من تراب سورية جئنا وإليه نعود وتدمر أو البلد التي لا تقهر “معناها في اللغة الآرامية” لن تكون إلا سورية كما كانت منذ آلاف السنين، وكما ستبقى حتى يعتق الغيم، طالما أن أبناءها على نفس الروح والاستعداد غير المشروط للفداء، كما كان الشهيد خالد الأسعد.