تشقُّق
عبد الكريم النّاعم
جلس صديقه قبالته، وتأمّل وجهه، فوجده مُكفَهِراً، فبادره بحذر: “السلام عليكم”.
أجابه: “وعليكم السلام ورحمة الله، ألم تسلّم قبل قليل؟”.
قال: “أردتُ أنْ أتأكّد من أنّك معي”.
أجابه: “اللهمّ طوّلك يا روح، هل تراني مع شخص آخر؟”.
قال: “تحمّل أسئلتي أرجوك، منذ مدّة كلّما جئتك أجدك متوتّراً، وفي حالة تثير قلقي، وأنا صديق عمرك، لعلّك ترتاح إنّ بحتَ بشيء ممّا تعانيه”.
نفخ نفخة طويلة وقال بصوت لا يخلو من رنّة أسى عميق: “ماذا أقول يا صديقي، الصداع لا يفارقني، وهذه حالة تكرّرت في حياتي، وأحياناً أتعايش معها، وغالباً ما تُقلقني على الرغم من أنّها مُزمنة، ويئستُ من سؤال الأطباء، وأكاد أعرف أسبابها، لكنّ معرفة ذلك لا تُلغيها، وما تكاد تهدأ حتى تبدأ”.
قاطعه: “عُرف السبب بطل العجب، أزلْ هذه الأسباب”.
أجاب بلهجة طافحة بالألم: “ليتني أستطيع.. أرى ما يحدث، وأنا أتابع عناوين ما يجري، أتنقّل بين الفضائيات لِأُلمّ بالعناوين الكبرى، وأنا أعرف اتجاهاتها السياسيّة، ولا تستطيع لجم أحاسيسك، وما أنا ممّن يتعاملون مع الأمور ببرود، فطبيعتي ناريّة، هكذا خُلِقت.. حين سمعتُ أنّ “قسد” المجرمة قد أسرت عدداً من أبنائنا في القامشلي والحسكة أحسستُ أن أبنائي هم المُعتقَلون، وحين أعلنوا عن عبور ميليشياتهم إلى الجهة الغربيّة من نهر الفرات أصابتني الكآبة، حتى لكأنّني أنا الضفّة التي استولوا عليها.. أنا أعلم أنّهم أدوات بيد الأمريكان، وكيان الاحتلال الإسرائيلي، وأنّهم يمدّونهم بالسلاح، ويأتمرون بأوامرهم، لكنْ حين تُنبئ الأخبار أنّها تسير نحو الأسوأ فإنّ حالتي النفسيّة تسوء، وأتألّم، وقد يكون ناقل الخبر ممّن لا يوثَق به، فبعضهم معروفة ارتباطاتهم الخارجيّة، بيد أنني أشعر باضطرابات تؤثّر على معدتي فوراً، وأنا، كما تعلم، لا تنقصني الأمراض.. قرأت خبراً يقول إنّ تركيّا تطالب سوريّة بكيت وكيت.. العمى!!.. قبل أيام كانت الأخبار توحي بما يُشعر بشيء من الانفراج، فحدث بعض الارتياح، فإذا بهم يعودون إلى النفاق، لا إلى لغة مقتضيات المصلحة المُتبادلَة والجوار، فما الذي أثار هذه الزوبعة الآن؟!.. أنا أعلم امتدادات أذرع أمريكا والصهيونيّة، وأُدرك أنّهم يفتحون أكثر من جبهة، لكنّ الفارق بين الإدراك الأحاسيس شاسع جداً، مَن يستطيع التعامل مع هذه المجريات ببرود إلاّ الذي أدار ظهره لكلّ شيء، وقد لا تهمه إلاّ نفسه، وبظني أنّ أمثال هذا قليلون جداً..
قاطعه: “قد يكون ذلك، لكنّ الكثيرين لا يتعاملون مع الأحداث بمثل هذه الحساسية الطّافحة التي تسيطر عليك”.
أجابه: “هل تعتقد بأنني سعيد بما أنا عليه من توتّر؟!! صدّقني أنا أُدرك أنّ عدداً من الشكاوى المرضيّة التي ترافقني سببها هذه الانفعالات،، فحين أسمع خبراً مطمئناً أشعر بنشاط مفاجئ أغبط نفسي عليه، لكنّ الغالب يا صديقي هو هذا السواد، وهو سواد مركَّب يقتحمني من جميع الجهات، من داخل ومن خارج”.
قاطعه: “لكأنّك غائب عمّا يُنجزه محور المقاومة داخل الأرض المحتلّة، وعمّا يحدث داخل المجتمع في كيان الاحتلال الإسرائيلي من مخاوف، وربّما انقسامات؟”.
أجابه: “لولا هذه البوارق التي ذكرتَها لربّما كنتُ جثّة محشوّة بالمسامير والخِرق، وكآبة الدهر، صدّقني يا عزيزي، على الرغم من صعوبة الموقف، وخطورة احتمالاته الإقليمية والعالميّة، فأنا أشعر بأنّ روح المقاومة قد فتحتْ آفاقاً كانت شديدة الإغلاق، وأنّ ثمّة تاريخاً جديداً يكتبه هؤلاء الأشاوس، وأنّ ما ينجزونه ستكون له نتائج باهرة، وكم أتمنّى أن يمتدّ إطالة أمد المعركة بما يسمح لتفسّخات المجتمع في كيان الاحتلال الإسرائيلي أن تطفو أكثر فأكثر، ولعلهم لم يغفلوا عن ذلك”…
aaalnaem@gmail.com