شجر المطارات بلغة عربية واحدة
تعبر حياتنا في نفق زماني لا نراه، لكنه يترسّب في ملامحنا وأعماقنا، ويترك آثاره ملامح جديدة على أرواحنا وأجسادنا ونفوسنا، ويطفو في أعماقنا متفاعلاً كما تطفو الأشياء على سطح البحر، ويغرق في دواخلنا كما تغرق الذكريات، فنسبح بأقصى مهاراتنا، لعلنا ننجو، فلا تعلق بنا الشوائب، ولا تتداعى الجراح، نسبح تاركين للرياح المخرومة أن تصطاد لحظاتِها، وللطرقات أن تنعطف بموسيقانا، مقتنعين بأنه لا عودة إلى الطفولة بحالتها الواقعية، لكننا لا نستطيع التخلّص منها لأنها منغرسة فينا.
وبين الدروب تتقاطع الأحلام، وتنبت أشجاراً وغيوماً وكلمات تشبه طرقات المطارات، تلك التي تتشابه بين دمشق وحلب واللاذقية وأبو ظبي ودبي والشارقة وجدة، فتجعلك مستبصراً كيف الشجر يشبهك لدرجة أنه يتحدث لغتك العربية، فيذكّرك بسفرك السابق، ويحنو عليك مثل الياسمين وهو يحضن رائحته الطاهرة، والنخيل وهو يحنو على ثماره، لتعبر ضمن ذاك النفق غير المنظور من الأزمنة.
نمضي في الدروب، وتمضي معنا الحياة، وكل منا يلتفت إلى ما غاب من عمره في سِجلّ الأيام، مستذكراً كيف كان والده، ذاك السائق الماهر المحب للفرح، يرحل به مع عائلته إلى المحافظات السورية، وكذا، كان أبي، رحمه الله، يسألنا حال عودتنا إلى حلب: أي مدخل مدينة أجمل؟ حلب أم اللاذقية أم دمشق؟ وكل منا يجيب، فيسأله: لماذا؟ فأجيب: لأن الأشجار هنا أكبر، وأكثر، وتحكي الكثير، فهي تودّعنا وتستقبلنا، ولدينا أشجار الفستق الحلبي، بينما في اللاذقية فالبحر جميل، وفي دمشق أناقة المدينة العريقة، لكن، لماذا لا يأتي البحر إلى حلب يا أبي؟! لماذا لا تستطيع أن تحضره معنا؟!.
ثمة أطياف تقلّب صفحاتها على الطرقات في الأرض والسماء، تلك السماء التي كانت تظهر مع نجومها في بيوتنا العربية، فنعدّها إلى أن ننام، تاركين للقمر أن يحلم بعودته في الليلة القادمة، وللشمس أن توقظنا مع أول أشعة، لنستنشق رائحة الورود التي تملأ بها أمي، رحمها الله، ساحة الدار، ونوافذ البيت الخشبية، ودرجاته المؤدية إلى السطح، ودرابزينه الحديدية التي يحب أولاد الجيران أن يمسكوا بها ليقفزوا 7 درجات أو أكثر، وتبدأ أصوات أمهاتهم بالارتفاع: يا طوني، انتبه، يا حنا لا تصعد الدرج، يا ماريا هل جُننت؟ يا محمد تعال، واجلس هنا لأشرب قهوتي بهدوء، يا ضحى، كفاك مشاغبة.
وبعد دقائق يتكرر المشهد إلى أن تنتهي جلسة القهوة الصباحية، وتذهب الجارات وأولادهنّ، ويكمل كلٌّ منا يومه كما تكمل حمامات البيت بخلاخيلهنّ النزهة، وتظل الفراشات والنحلات وأصوات مياه التنظيف وروائحها المعطرة تملأ الفضاء.
ذاك الفضاء المصاب بالحنين والأمان والسلام على الرغم من الأوضاع الاقتصادية كان يتفتّح مثل الوردة الشامية في قلوبنا وعيوننا ومدارسنا ودروبنا الأرضية والسماوية، تلك الدروب التي حفظت إيقاع خطواتنا في القلعة ومحيطها وأسواقها، ستظل تغني مع صباح فخري “درب حلب ومشيتو وكلو سجر زيتوني”.
وهناك دروب أخرى ما زالت تحتفظ بحكاياتنا على الرغم من أن بعضها صار أنقاضاً بسبب العشرية الظلامية والزلزال، بينما دروب السماء التي كانت تلمع بطائرات المسافرين والزائرين العرب والأجانب، فكانت تغني مع فيروز “طيري يا طيارة طيري”، وكنا نلوّح لها بأيدينا ونتقافز ونحن سعداء، بينما الغالبية، الآن، من الآباء والأمهات والأهل والأصدقاء والأطفال واليافعين المعاصرين ما زالوا يحلمون بطائرات عائدة بأحبتهم ليلوّحوا لها بأيديهم، مسرعين إلى طريق المطار ليعلّقوا على الشجر حكاياتهم بلغتهم العربية الواحدة، لعلها لا تدخل إلى نفق زماني لا مرئي، أو لعلها تصبح ذاكرة لمرحلة عبرت، وتعبر، وستعبر.
ترى، أي الدروب أحبّ إليك؟ وأي مدخل مدينة تشعر بالحنين إليه؟ وأي شجر ما زال يزهر بذكرياتك وأحلامك؟ لماذا، أيها القارئ الكريم؟
غالية خوجة