دراساتصحيفة البعث

أمريكا اللاتينية في مواجهة الضغوط الأمريكية

عناية ناصر

لطالما نظر الأمريكيون إلى أمريكا اللاتينية باعتبارها “فناءهم الخلفي”، ويبدو هذا التوصيف وبشكل متزايد كمصطلح سياسي عفا عليه الزمن، بل بات مليء بالهيمنة .

لقد وضع مبدأ “مونرو” لعام 1823 الأساس المبكر لهذا المفهوم، مدعياً أن الأمريكتين كانت ضمن نطاق النفوذ الأمريكي ومنع التدخل الأوروبي. وفي أوائل القرن العشرين، عززت “سياسة العصا الغليظة” للرئيس ثيودور روزفلت التدخل الأمريكي في أمريكا اللاتينية. وبحلول منتصف القرن العشرين، مع بداية الحرب الباردة، أصبح مصطلح “الفناء الخلفي” أكثر شيوعاً، ويرمز إلى جهود أمريكا لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفييتي في المنطقة.

في السنوات الأخيرة، أبدى الساسة الأمريكيون اهتماماً متزايداً بـ “فناءهم الخلفي” بسبب الروابط المتزايدة بين الصين ودول أميركا اللاتينية. وتشير الأنباء الأخيرة إلى أن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا يخطط لمناقشة “شراكة إستراتيجية طويلة الأجل” مع الصين في وقت لاحق من هذا العام. كما ذكر أن الحكومة البرازيلية تعمل على صياغة اقتراح للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية.

حالياً، لا يوجد سوى عدد قليل من البلدان في أمريكا الجنوبية لم تنضم رسمياً إلى هذه المبادرة. ومن المرجح أن تؤثر البرازيل، باعتبارها الدولة الأكثر أهمية في القارة، على العلاقات الإقليمية مع الصين إذا شاركت في مبادرة الحزام والطريق.

تشير هذه الحالة إلى أن أمريكا اللاتينية تسعى بشكل استباقي إلى إيجاد توازن جديد في المشهد الجيوسياسي العالمي المتغير. وفي عالم متعدد الأقطاب على نحو متزايد، تحتاج أميركا اللاتينية إلى شق طريق مستقل لتطورها. وتعترف الولايات المتحدة بالتغيرات التي تحدث في “فنائها الخلفي”.

ومؤخراً، اقترحت لورا ريتشاردسون، رئيسة القيادة الجنوبية الأمريكية المسؤولة عن الدفاع في أمريكا اللاتينية، أن تدرس الولايات المتحدة “خطة مارشال” للمنطقة. وفي سياق متصل أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينيكن في الشهر الماضي، إطلاق مبادرة أشباه الموصلات في نصف الكرة الغربي في اجتماع وزاري لشراكة الأمريكيتين من أجل الرخاء الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، زارت وزيرة الخزانة جانيت يلين البرازيل خلال اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين ومحافظي البنوك المركزية. وفسرت وسائل الإعلام الأمريكية هذه التطورات على أنها تتوافق مع نية وضع حد وفق زعمها للنفوذ الإقليمي للصين. ولكن عند دراسة رغبات الصين والولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية مثل البرازيل، يتبين أن الجهود الأمريكية لاستعادة إستراتيجية “الفناء الخلفي” من الحرب الباردة قد لا تسفر عن النتائج المرجوة.

تحرص الصين ودول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل على تعزيز التعاون كونه  يتماشى مع الاستراتيجيات التنموية لكلا الطرفين، حيث  تم الاعتراف منذ فترة طويلة بأن التكامل الاقتصادي بين البرازيل والصين لا يمكن تعويضه. وهناك مخاوف دولية من أن البرازيل تعتمد بشكل كبير على صادرات المواد الخام مثل خام الحديد والنفط وفول الصويا إلى الصين. ومع ذلك، فقد عالجت الاستثمارات الصينية الأخيرة في التصنيع البرازيلي والمشاركة النشطة في مشاريع البنية الأساسية للطاقة والاتصالات هذه المخاوف. كما أن هذه القطاعات حيوية لتنمية البرازيل، وفي الأمد البعيد، قد تسهل التحول الاقتصادي للبرازيل.

ونظراً لأن الولايات المتحدة تظل الشريك الاقتصادي والتجاري الأكثر أهمية للدول الكبرى في أميركا اللاتينية مثل البرازيل، فإن الدول في أمريكا اللاتينية سوف ترحب بذلك بالتأكيد إذا كانت مستعدة حقاً لمساعدة أميركا اللاتينية على التطور من خلال “خطة مارشال” جديدة.

منذ أن روجت الولايات المتحدة بقوة لـ”إجماع واشنطن” في تسعينيات القرن العشرين دون أي نجاح يُذكَر، أهملت في المقام الأول الاستثمار في التصنيع والبنية الأساسية في أمريكا اللاتينية، ولم تنتبه إلى ذلك إلا عندما دخلت الصين إلى ما اعتبرته “فناءها الخلفي”.

إن التحركات الإستراتيجية التي اتخذتها واشنطن، رداً على وجود الصين في المنطقة، لا تهدف إلى تعزيز التعاون المربح للجانبين، بل إلى مواجهة الصين. إضافة إلى  أن النية ليست الانخراط في التعاون، بل تقليص نفوذ الصين ودفعها إلى الخروج من المنطقة. وهذه الديناميكية تجبر بلدان أمريكا اللاتينية على اختيار أحد الجانبين وتضيف ضغوطاً سياسية واقتصادية عليها.

وعلى نطاق عالمي أوسع، فإن نهج الولايات المتحدة القائم على مبدأ المحصلة الصفرية يثير ردود فعل عنيفة بشكل متزايد، مما يدفع المزيد من البلدان إلى السعي إلى موازنة الضغوط الإستراتيجية الأمريكية من خلال تعزيز التعاون مع الصين.

إن معضلة واشنطن هي إذا ما كان  ينبغي عليها أن تستخدم الموارد التي لديها لدفع الصين إلى الخروج من المنطقة والحفاظ على مكانتها باعتبارها “الزعيم” في أمريكا اللاتينية على المدى الطويل.