مبضع النقد في تجربة بيرقدار والخطيب
أمينة عباس
سعياً لإعطاء كل ذي حق حقه في مجال الإبداع من خلال الإضاءة على نتاج وتجارب مبدعينا، أطلّت جمعية الشعر والنقد الأدبي في اتحاد الكتَّاب العرب، مؤخراً، على تجربة الشاعرين قحطان بيرقدار وفرحان الخطيب من خلال دراستين قدمهما الدكتور غسان غنيم والأستاذة رجاء شاهين، يقول قحطان بيرقدار: “أقرض الشعر منذ عشرين عاماً من دون أن يتناوله مبضع النقد إلا ثلاث أو أربع مرات، وأرى أن ذلك تقصير من النقاد في مواكبة الشعراء”، ويشير فرحان الخطيب إلى ضرورة إقامة مثل هذه اللقاءات لأن “النقد يكشف الإبداع ومؤثراته، ويدفع النصوص والأدب إلى النور، ويظهر الجماليات والمعاني والصور”.
وبعد أن تخاطب شاهين الشاعر بيرقدار عبر دراستها لتجربته بقولها “سرْ أيها الشاعر، لا تدع القمر يموت في جسدك، وقل لصديقك الضوء أن يستحم في صلاة الفجر، خذ وعد الشمس ولذ بين نسغ المجرة والذاكرة والصور، وصوتك يهيء الحقول، وصوتك يقود المطر”، تبيّن: “نصوص بيرقدار الشعرية تمثل توجهاً خاصاً في بناء القصيدة الحديثة وفي قوة العبارة الإيحائية وكثافتها، وقد تشكلت نصوصه عبر منظور يتواصل مع التراث من الوزن العروضي وهي في طريقها إلى التكامل بما تحمله من المعرفة التي احتواها التراث العربي المتواصل مع الأسطورة وتوظيفها في البناء الشعري وأثناء الصياغة باستحداث رؤية للكون والوجود باستخدام الرموز والدلائل، لكن بشرطَي الانتماء والوعي، فتكثر فيها الرؤى الكونية التي تصور فكرياً وأدبياً الأشياء الماثلة أمامنا في حقيقته الذاتية، حيث يرتبط الإبداع بأحوال الواقع واستخراج الأجوبة من حركته نفسه لا من الأجوبة الماضية”، وتضيف: “حداثة بيرقدار الشاعر لها خصوصيتها من طرح الأسئلة من ضمن إشكالية الرؤيا العربية حول كل شيء، وقد شكّلت إفادته من التجربة الصوفية في إنتاج رؤيا جديدة ونظام جديد من المقاربة والمعرفة ركيزة بناء لتواصل شعريته مع الشعرية القديمة عبر تعابير حداثية تتعامل مع المفردات والتراكيب والحياة، وبعضها يثير الالتباس في التراكيب والبناء مما يفترض حصول تجاور في المعنى، وقد نمى تأثير نزوعه الصوفي لموروث وتقديراته البعيدة قواه الداخلية وميله إلى الرمز، فتعاطفت الشاعرية مع مرجعيتها الخاصة وعولت في كثير من جوانبها على التجربة الصوفية، ويبتسم الشاعر قحطان بيرقدار لخفايا النص في بنيانه حين يُشير إلى المضمون وعلاقته بالتراث المعرفي العربي، حيث تنبثق الحداثة العربية وتتكثف الإشارة وتتوالد الدهشة بكتابته التي لا تتخلى عن التواصل مع الشعرية العربية على الأقل في أجزاء خاصة، لكنها تنفصل عن تاريخية الموروث الشعري لتحيل إلى حاضر أو محتمل، وهي في الممارسة الكتابية الحديثة ممارسة استباقية تندفع في معانقة الرؤى وطرق التعبير”.
وعلى الرغم من أن بيرقدار ـ حسب شاهين ـ فنان يتقن صياغة اللغة ويعطي للشعر مفهوماً مغايراً ضمن العلاقات التي تقيمها لغة نصوصه تراكيب وصوراً ورموزاً: “لكن المقصود باللغة في قصائده ليس مجرد مفردات صوتية قائمة بذاتها، إنما هي أكثر من ذلك، إنها الكلمات والعلاقات والمعاني، لذلك تأتي دافئة قادرة على الوصول والتواصل عبر فتنة الصورة وروعتها وكثافتها وازدحامها بالألوان والأضواء والظلال، وهنا أؤكد أن لبيرقدار كينونة شعرية خاصة تعتمد على الأسطورة لتجسيد الحالة، وعلى النفس الشعري الخاص، وهذه الشعرية وافد مهم للشعر الحديث مع انخراط بيرقدار أكثر في الجوانب الموضوعاتية والخصائص التي تحقق للشعر كيانه من حيث هو ظاهرة فنية، فجاء شعره يعبر عن قضاياه وفق شروطه وحسب ما يحقق له كينونته الفنية، لكنه في بعض الأحيان بسبب الظروف الراهنة وضغط الاهتمامات المباشرة يدخل شعره الراهن ويعبر عن مسائل العصر من بوابته هو وحسب ما يحقق بيرقدار شاعريته عبر لغة هي نافذته للتعبير عن قضاياه، ومادته لبناء عالمه الشعري، وهو المؤمن أن القصيدة فن، وأنه يسعى ليرتقي بشعره عالياً”.
عنيَ بيرقدار بأشياء وموضوعات جديدة غير التي أنتجها القدماء، وتمكن من أن يكون حديثاً عندما تمثل القديم واختبره كيانياً، تقول شاهين: “في شعره الحداثي يدعو إلى البحث عن مسالك في الكتابة الجديدة والخروج من سلطة أبنية لم تعد تستجيب لهذه الكتابة الوليدة، ويحسب أن شعر التفعيلة عند قحطان أكثر نفوذاً إلى عقل وقلب المتلقي بقدرته السحرية في التأثير في إنتاج الصورة الشعرية عند التئام الأضداد ورؤية الحياة في الجماد بانفعالات ومشاعر داخلية عمدت إلى دعم وتجسيد أبعاد مختلفة لرؤيته الشعرية، فابتكر بخياله عالماً من الصور له علاماته وآلياته، وسهل النفاذ إليه والتعامل معه بيسر”.
وارتأى الدكتور غنيم في دراسته الأدبية لتجربة الشاعر فرحان الخطيب أن يمارس العملية النقدية على قصيدته الطويلة المعنونة “أميمة”، إيماناً منه بأن الممارسة النقدية على نص واحد تشير إلى تجربته الشعرية، وبدأ كلامه قائلاً: “تضاربت آراء النقاد في قضية طول القصيدة وقصرها في الشعر، ويجمع أغلبهم أنّ طبيعتها الغنائية تميل إلى القصَر، لكن التعبير عن التصورات الملحمية الكبرى لا يتأتّى إلا عبر الطويلة منها، ولقد قاسَ بعض نقاد الشعر عظمة الشعر بنظم تلك القصائد العصماء المتلاحمة ويطمح أكثر الشعراء لنظم قصائد طويلة ويبقى الاختلاف بين شاعرٍ مُفلّقٍ وشعرور إنّما هو القدرة على نظم قصيدة طويلة نظماً ناضجاً”.
تبدأ قصيدة “أميمة” ـ كما يوضح غنيم ـ بغزل، فيتبادر للمتسرع في تلقّيها بأنّه غزل عُمَري، لكن هي “دعوة لانتزاع أنوثة نقيّة لا للذّة أو متعةٍ صاخبة، بل طلب للتجذّر والبقاء، فأميمةُ الرمز مدعوّةٌ إلى أن تنشر ضفائرها الوارفة لتحمي هامات الرّجال ولتريح أبناءها المتعبين الذين نسوا كل معنى للاستيقاظ والقيام وباتوا كما المومياوات المحنّطة تقودُهم تهويمات الخرافة والتّطيّر بين نعيق غراب ونعيق عرّافات الزّمن المجدب، فينسون حتى الغناء تطيّراً فتترادف الصّورُ في القصيدة لتوحي بحالة الجمود الحضاري الذي لا يسيرُ بأبناء هذه الأُمّة فيناشد الشاعر أميمة الأمّ الأرض علّها تستطيع أن تعطي من أنوثتها النّقية بعضاً من حياة لذات الإنسان في هذه الأرض التي فقدت أية رغبة في الفعل القادر على التّغيير، مذكراً الشاعر نفسَه وأمّته وأرضَه بما قام بهِ إنسانُ هذه الأرض منذ أنْ كان بمنعرجِ اللوا حتى انساقت قوافل خيله الجامحة شرقاً نحو العراق وما يليها، وغرباً حتى تلمسان وما بعدها، فصبغ الأرض بمائه ولسانه على الرغم من كل المصاعب التي عبّرَ عنها بالزّمهرير والتي لم تثنِ آمالَه العريضة ليرشَّ بذارَه في قحط الصّحراء فتثمرُ وتحدوهُ الآمال”.
ويرى غنيم أن الشاعر الخطيب في قصيدته الملحمة العربية التي حاولت اختصار تاريخ أرض وأمّة اختار الرمز: “لم يأتِ عبثاً اختياره “أميمة” عنواناً للقصيدة لتكون الأمّة العظيمة التي ستنجب الشّعب الرّامح نحو المجد الذي يطمح لإيقاده بعد انطفاء، ملتجئاً فيها الشاعر إلى الرّمز ليس المفرد الذي يكتفي بانزياح لغوي يلجأ إليه ليغني لغة القصيدة، بل هو الرّمز الشّامل الذي يعمُّ القصيدة كلها، فتقوم عليه ويشكّل أوَدَها كلّها، وهو منذ البداية يشعل خيال المتلقي ويجعله يتساءل “مَنْ هي هذه التي تتمتع بنقاء الأنوثة فتمتدّ جدائلها ويتوسّد الشاعر يدها ليغفو على انتظار للمدى والممتد من الآمال؟”، وهذا ما أسبغَ على القصيدة ظلالاً شفّافة تقولُ ولا تصرح وتوحي أكثر مما تلمّح من دون الاستغراق في حمأة الرمز فيضع صوىً في الطّريق تهدي التّائه من دون تصريح كامل، وهذا ما جعل الرمز شفافا قادراً على الإيحاء غير مستغلق، يبثّ ولا يصرّح عبر لغة قامت على خلق معادل موضوعي لما يريد الشاعر أن يصل إلى المتلقي، فأوهم في مطلع القصيدة بأجواء عشق حميم بين الشاعر وأنثاه وبحالة حُبّ ملتهب بين عاشقين، فتصير هذه الحال معادلاً لحالة عاشقٍ للأرض وللأمة ولتاريخ شعب، وهكذا تنساق لغة الشاعر مع هذه الحال، فتلبي متطلبات صور العشق ومتطلبات الرّمز معاً، ليصير الرمز أقدر على البثّ والإيحاء وإطلاق الخيال عبر صور نشرها الشاعر لتخدم تنامي القصيدة للوصول إلى ذروتها من دون قصدها لذاتها، وهذا ما جعله يتنازل عن شاعرية اللغة في القصيدة لمصلحة الرّمز الشامل لها فأعطى القصيدة تماسكها ووحدتها العضوية”.