مقامرة “الناتو” في كورسك
ريا خوري
استخدمت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) خطة تكتيكية جديدة في محاولة منها للضغط على القيادة الروسية من خلال مقامرة التوغل الأوكراني في كورسك الروسية.
تلك العملية طرحت الكثير من التساؤلات عن أهدافها ومخاطرها ومدى صمودها، فقد جرى الحديث عن سيطرة القوات الأوكرانية المدعومة من (الناتو) على حوالي 1000 كيلومتر مربع. لكن ذلك التوغّل لا يمثِّل انجازاً أو انتصاراً عسكرياً في دولة مساحتها أكثر من سبعة عشر مليون كيلومتر، وتمثِّل ثمن اليابسة في الكرة الأرضية. كما أن تلك العملية لا تحمل إلّا دلالة رمزية مفادها محاولة أوكرانيا إحراج روسيا العظمى، وإيهام العالم بإمكانية إجراء تبادل أراضٍ بين كورسك ودونيتسك مثلاً في أي مفاوضات سياسية تهدف إلى تحقيق السلام، التي قد تشهدها الأزمة الأوكرانية لاحقاً.
منذ اليوم الأول للعملية في السادس من الشهر الجاري، قالت القيادة الأوكرانية إنها لا ترغب في البقاء طويلاً في الأراضي الروسية التي احتلتها، وهي إشارة واضحة عن تخوفها من ردود الفعل العسكرية الروسية العنيفة، وإنما تأمل أن يُقنع هذا التوغل القيادة الروسية بالتنازل، لكن الرد الروسي جاء واضحاً، إذ تعهّد بطرد القوات الغازية، في وقت تحقق القوات الروسية العسكرية والأمنية واللوجستية مكاسب ميدانية إضافية في شرق أوكرانيا بتحرير المزيد من البلدات والقرى، والاقتراب من نقاط إستراتيجية هامة تتهيأ للسيطرة عليها بشكلٍ كامل، وتخطط لدخول مناطق أخرى واسعة، ربما كانت إلى وقت قريب خارج الحسابات العسكرية واللوجستية الروسية.
الجدير بالذكر أنَّ قائد قوات “أخمات” الروسية الخاصة، اللواء أبتي علاء الدينوف، أكَّد تحييد معظم القوات الأوكرانية المتوغلة في كورسك، ومقتل نحو ثلاثة آلاف مقاتل في الهجوم الأوكراني على كورسك من أصل 12 ألف مهاجم. وهؤلاء هم الوحدات العسكرية المتبقية من بعض الكتائب والألوية التي كانت منتشرة على طول الجبهة، تم تجميعهم ونقلهم من هناك ومن كل مكان وإلقاؤهم في كورسك.
ومنذ نحو عامين، يدور الحديث عما تم تسميته كييف بـ “الهجوم الأوكراني المضاد”، الذي فشل فشلاً ذريعاً، بل استنزف أوكرانيا وحلفاءها الغربيين وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، أما بعد كورسك فسيكون الحديث عن الهجوم الروسي المضاد والكاسح الذي يجري التحضير له على أعلى المستويات، ولا أحد يمكن أن يتوقع حدوده ومداه ومستواه، وحتى إذا قرَّرت كييف الانسحاب من المنطقة، التي سيطرت عليها، فذلك سيكون كارثياً بكل المعايير السياسية والعسكرية الإستراتيجية، على الرغم من أنَّ مسرح العملية العسكرية أرض غابات كثيفة توفر الغطاء نسبياً، لكن القوات المتراجعة ستواجه كثافة نيران هائلة وحمم غير معروفه سابقاً ستحوّل التقهقر إلى كارثة إستراتيجية بالمعنيين السياسي والعسكري والأمني الاستراتيجي.
حلفاء أوكرانيا الغربيون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، سعوا إلى النأي بأنفسهم عن الهجوم الأوكراني الأخير، دون أن يدعموه صراحةً، ربما في انتظار ما ستؤول إليه هذه العملية التي لها ارتداداتها الخطيرة على الجميع، على الرغم من أنَّ كل المعطيات المتوفرة تؤكّد استحالة احتفاظ القوات الأوكرانية بالمنطقة في كورسك التي سيطرت عليها، وتخوّف الغرب الأمريكي -الأوروبي من أن انتقاماً روسياً مؤلماً، وهو كذلك ، وقد يكون بشن هجوم عسكري نوعي واسع على أوكرانيا، أو استخدام أسلحة غير تقليدية حتى تعيد روسيا الاتحادية رسم خطوطها الحمراء أمام القوى الغربية التي يمكن أن ترى في هذا الاختراق الأوكراني هشاشة روسية تغري بمنح أوكرانيا أسلحة أكثر قوة وفاعلية.
اللافت للنظر في هذا السياق أنّ ما جرى في الأيام القليلة الماضية من صمتٍ روسي كان ومازال يثير المزيد من التوتر والقلق في أوكرانيا والدوائر الغربية، حيث يؤكد كبار الخبراء العسكريين والاستراتيجيين في العالم أنَّ هذا الصمت يخفي بين طياته عملية تحضير مرعبة وغير متوقعة، فقد نقل عنه وزير الخارجية سيرغي لافروف التأكيد بأنه في أعقاب التوغل الأوكراني في كورسك، أصبحت المفاوضات ضرباً من المستحيل. وهذا يعني أنَّ الرد قد لا يتوقف عند المستوى السياسي باستحالة المفاوضات، وإنما قد يحوّل العملية العسكرية الخاصة إلى حرب شاملة لن تتوقف عند حدود أوكرانيا.