محمد محفوض وتشكيلات بصرية تزيّن الشوارع والساحات
حمص ـ سمر محفوض
عبر محاولاته الخروج من المساحات الضيقة إلى بلاغة جماليات الانفتاح على الساحات الإبداعية الواسعة والفنية المبهرة، يجسد الفنان التشكيلي محمد فؤاد محفوض، ذاكرة فنيةً وتفيض جعبته بالعديد من المشاريع الفنية، معتمداً إضفاء الجمال على كل شيء بلمسة متأنية تعيد تدوير توالف البيئة، وتحويلها إلى معرض احترافي.
يقدّم الفنان محفوض فضلاً عن فنه وإحساسه المرهف ثقافياً، حالة مجتمعية توعوية، وبيئية مستدامة، عبر قيامه بتنفيذ الأعمال التي اشتغلها على الرغم من بساطة المكونات بحرفية عالية، وقيم مضافة خارقة، فقد رصف وزيّن ٢٢٠٠ متراً مكعباً في ساحة من ساحات حمص التي تحيط بمحترفه، وعمل على تجسيد حلمه الجمالي المؤجل أكثر من نصف قرن، بلوحات فنية، وتشكيلات بصرية زينت أروقة الصالة، وجدران الساحة المحيطة بها، وأرصفتها بلوحات وديكورات اعتمد في معظمها على مواد يفترض ألّا أمل منها، فرسمت الفرح ونسجت الأمل في حنايا حمص الجميلة على الرغم ممّا مرّ بها وبه من شجون وآلام ووجد وشوق.
تزينت جدران الساحة بموجة من عنف الحركة والألوان بالسفينة الفينيقية، إلى جانب تجاوز حدود المكان وتناغم المعاني الحضارية لحمص ودمشق وقلعة ونواعير حماة، بالإضافة إلى بوابة فيليب العربي بالسويداء، يجاورها باب بغداد بالرقة، وعودةً إلى حمص في أجزاء تمثل آثار تدمر، حيث يقف زائر المعرض ومتذوق الفن أمام تمازج فريد زمكانيٍ يندر وجوده في لوحة واحدة لولا براعة هذا الفنان وذاكرته الخصبة وإحساسه الذي لم ينس فضل الحضارات أو ينكرها، بل حاول تسليط الضوء عليها، وتخليدها على الأقل في ذاكرتنا ووجداننا إن لم يك في جدراننا.
تعود لوحات محفوض لتتوزع الأبراج الفلكية في تمازج روحي على المداخل المحيطة بصالة المعرض، جامعاً كل الحرف من حدادة ونجارة ونحت وفن تشكيلي عبر مشكّلات ومجسمات وأعمالاً متقنة من عربات وأراجيح من بقايا البراميل، ومقاعد يستريح عليها المارة وطعم نوافير المياه التي صممها ونفذها بزخارف من شظايا الزجاج والسيراميك المكسور، كما لم تغب عن ذاكرته الذوقية أحواض الزهور والأشجار، وزراعة عدد إضافي منها ليتحول المكان إلى معلم سياحي ومتنفس فني للأهالي.
أما الأطفال فكانت حصتهم عاليةً من الألوان الزاهية، حيث أخذوا يلعبون ويرسمون ويمارسون كل هواياتهم بشكل آمن، في استراحة من هموم ومتاعب الحياة..
لوحات فنية أنجزها محفوض بمفرده خلال فترة زمنية لم تتجاوز الثمانية أشهر، فاستقطبت صالته معارض فردية وجماعية وورشات ضمن مشروع فني أطلق عليه اسم “بيت الفن”، يهدف إلى دعم الحركة الفنية بكل شرائحها واتجاهات مدارسها وألوانها.
في الفناء الداخلي لصالة المعارض تجاورت أكثر من مئتي لوحة فنية للتشكيلي محفوض، حديثة وقديمة، شارك فيها بالمعارض، تحاور فيها وتجاور الشعري والتشكيلي، فمحفوض فنان شامل، أنتج إحساسه الأدبي ست مجموعات شعرية تضاف إلى إنجازاته الفنية، وقد أرفق كل لوحة من لوحاته بقصيدة شعرية تعبر عنها أدبياً، مازجاً بذلك ما بين الرسم ولغة المجاز لتتجسد حالة جمالية خاصة وفريدة يهبنا إياها الفن كحرفة راقية وعالية، ومحفوض في اللوحة، كما في القصيدة يسكنه الهاجس ذاته، والإحساس ذاته، وانطلاقه نحو إعادة بناء عوالمه الداخلية بحثاً عن إجابات عميقة لأسئلته الوجودية.
يتجاوز محفوض القوالب الجاهزة في لحظة إشراق للغة البصرية والمخيلة كعلاقة غير مألوفة تضيف جماليات إنشائيّة ولونية هي المجال الذي ينسج فيها آلياته الفنيّة، واصفاً تجربته وغربته والفن الذي كان هاجساً فطرياً، وقد تفتحت موهبته منذ الطفولة المبكرة، حيث قامت والدته بحمل رسوماته وعرضها في مدرسته، مشكلةً حاضنة ووعياً ذاتياً خاصاً، ولروحها أهدى كل ما أنجز من أعمال.
وجد محفوض أن لديه هدف إنساني سامٍ يمكن أن يعيش به وله، محققاً ذاته ضمن ما يخلق أنموذجاً إيجابياً في مجتمع يحتاج شبابه إلى إعادة صياغة المفاهيم والبناء الجمالي لمفاهيم وقيم الإبداع، ويستند إلى ما درسه مدخلاً إياه في فنه ابتداءً من الثانوية الصناعية ومن ثم دراسة اختصاص الديكور في كلية الفنون الجميلة، صاقلاً موهبته بشكل ثقافي وعملي ومهني متقن، فالدمج بين الحرفي والفني توضّح بشكل لافت عبر خطوطه اللونية الزيتية ومجسماته المعدنية، بالإضافة إلى المنظور الداخلي والعمق المتناغم في اللوحة.
الفنان محفوض جمع في الساحة المقابلة لمحترفه في حمص أكثر من ٢٠ شابة وشاباً من هواة الفن التشكيلي في ملتقى “الفن رونق الحياة” بالتعاون مع نقابة الفنون التشكيلة فرع حمص، عبر فيها المشاركون عن مختلف الموضوعات الفنية الجمالية، وسيتوج هذا الملتقى بمعرض لأعمال المشاركين في المكان نفسه, في تأكيد التجربة الجمالية التي من شأنها أن تشكل حالة استقطاب وتنمية وتشجيع للمواهب والورشات الفنية ليكون نشاطاً يؤسّس تقاليد جديدة في العمل الفني والتشكيلي وذلك بنقله إلى وسط الجمهور، وخلق التفاعل المباشر، ما يغني الذائقة، ويعلي مفهوم الفضاء الذي يتشكل بالتشاركية.
بقي أن نقول: أعمال كثيرة أنجزها فرد فقط، فماذا لو كان هذا عملاً جماعياً منظماً ومدعوماً من المؤسسات الرسمية؟ ما الذي كان سينتجه من وعي وفن وتثقيف بيئي؟، وربما عشرات المخرجات التي نفتقدها في بيئة عانت ما عانته وتناضل في سبيل إعادة رونقها بعد طول حرب ودمار.