حنا مينه واللقاء الأول..
حسن حميد
ما كان حنا مينه ليمتلك صالوناً أدبياً لكي نلتقيه نحن أبناء الجيل الجديد من الكتّاب والأدباء الذين تعلّمنا على رواياته، ولم يكن من أصحاب التقاليد بأن يرى مريديه في مقهىً ثقافي أو يجتمع بهم ويحادثهم كما جرت العادة في مصر أو العراق، كان يعمل في وزارة الثقافة، والتهيب من شخصه كان يحول بيننا وبين الوصول إليه، ولم نتجاسر على اللقاء به إلا عندما تقدّمت بنا التجربة وصرنا من أصحاب التأليف، أو من العاملين في مجال الصحافة الثقافية.. أقول هذا ليس تصويراً لحال عشتها أو أسئلة دارت بي لأقترب من حنا مينة، إنما أقوله توصيفاً لحال عدد من الأدباء والكتّاب أبناء جيلي، ولكم كنا نتحاسد حين يخبر واحد منا أنه التقى الأستاذ أو تبادل الحديث وإياه.
والحق، كانت للأستاذ حنا مينه مهابة لطالما حسبت لها حساباً على الرغم من كلّ ما قاله عن شعبيته، ومنبته الريفي، وكتابته للفقراء، والمحرومين، وأصحاب الأحلام الصغيرة، فهو رجل أنيق في لباسه، حذر في خطواته، وجه لا ابتسام فيه، ولا علامات راشدة أنه على استعداد للترحيب بك أياً كنت.. ثمة وقار يلفّه، ومهابة تحيط به كما لو أنه كائن بشري عاش حياته كلها في القصور أو طيّ سطوة الأعراف و التقاليد.
قلّة من أبناء جيلي نجحوا في التعرف إليه، وقلة حالفهم الحظ فأخذوا إحدى رواياته موقعه بقلمه، وقلّة تجرّؤوا على زيارته في مكتبه في وزارة الثقافة لأنّ أسباب الزيارة ما كانت متوافرة، فهو لا يشرف على إصدار مجلة “المعرفة” التي كنا نحلم برؤية نصوصنا منشورة على صفحاتها، ولم يكن هو من يشرف على أنشطة الوزارة من ندوات أو مهرجانات، كان الرجل، آنذاك، مستشاراً للسيدة الوزيرة، آنذاك، الدكتورة نجاح العطار، أطال الله في عمرها، والدخول إلى مكتبه من دون سبب وجيه كان أمراً عويصاً لم نجد له حلاً، وكنا نريث بعضنا بعضاً بأنّ الأيام قادمة وسنلتقيه ونتعرف إليه.
وكانت بداية التعرّف إليه، بالنسبة إلي، في النصف الثاني من عقد الثمانينيات من القرن العشرين المنصرم، فقد ذهبت إليه أنا وصديقي أحمد سعيد نجم القاص المعروف، لكي نطلب منه، وفي ورقة مكتوبة على الآلة الكاتبة، يوم عز الآلة الكاتبة، أن يتفضّل ويجيب عن أسئلة كتبناها دارت حول انتفاضة الشعب الفلسطيني في عام 1987، وقد شجعنا على زيارته أستاذنا الدكتور فيصل درّاج، أطال الله في عمره، فقلنا له، أنا وأحمد، نحن لا نعرفه، ولم نلتق به.. قال مشجعاً لنا إنه رجل وديع، وشعبي، وسيفرح بكما حين يعرف أنكما تكتبان القصة، وأنكما تعملان في مجلة “الهدف”؛ ونظرت إلى أحمد، ونظر أحمد إلي، وقلنا للدكتور فيصل دراج: سنجرّب!
وذهبنا فعلاً من دون موعد، ومن دون هاتف، وكان معنا قلقنا، وهواجسنا، وتوقعات متعدّدة الأشكال عن كيفية استقبال الأستاذ حنا مينه لنا، كان الوقت في الظهيرة، حين وصلنا إلى وزارة الثقافة، وكان أحد العابرين في ممر من ممرات الوزارة ضحيتنا، فسألناه: “أين هو مكتب الأستاذ حنا مينه”، فرحّب بنا، وأرشدنا إليه.. ما كان باب المكتب مغلقاً، فرأينا الأستاذ خلف المكتب بقميص أزرق – بحري، خطوطه البيض تكاد تضيء.. لم يكن أحد لديه، حين عبرنا الباب، وظهرت كراسي المكتب، تحيط به من الجانبين، وكانت الأوراق بين يدي الأستاذ وحوله وأمامه فوق المكتب.. سلّمنا عليه، فرفع رأسه، ونظر إلينا، وقال: “أهلاً!”.. أهلاً خافتة لا إيقاع لها أو تصويت مختلف، ووقفنا أمام المكتب، والمغلّف الذي فيه الأسئلة بين يدي أحمد سعيد نجم. قال أحمد، وكان يسبقني في خطوة: “نحن من..”، ولم يكمل لأنّ الأستاذ قاطعه بإشارة من يده إلى الكراسي، فجلس أحمد، وجلست، ورمى الأستاذ الأوراق من بين يديه، ثم ضغط على مكعب بلاستيكي أبيض صغير، فتعالى صوت رنين جرس، ودخل رجل عفي، يلبس طقم سفاري موحّد اللون، وسألنا الأستاذ: “قهوة؟”.. قلنا ونحن طيّ الارتباك: “قهوة”.. ياللقهوة ما أجملها!! لقد أرتنا ضحكة الأستاذ، فهو حين يضحك، يضحك وجهه كلّه، ضحك لأنني قلت للرجل العفي: “قهوة حلوة لو سمحت”، فقال الأستاذ حنا مينه: “قهوة وسكر، ستفسدها!”.
لن أنسى ذلك اللقاء، تحدّثنا، وشربنا القهوة، وأخذنا روايتين موقعتين بقلمه، أنا وأحمد سعيد نجم، ووعداً بالإجابة عن الأسئلة الدائرة حول انتفاضة الفلسطينيين عام 1987.
نعم، بعض الرجال يشبهون حبة الجوز في مظهرها الخارجي القاسي الجميل، ولكن لبابتها لها لذاذة لا تشبهها لذاذة أخرى، وكان الأستاذ حنا مينه، الذي رحل في مثل هذه الأيام، واحداً منهم!.
hasanhamid55@yahoo.com