دراساتصحيفة البعث

الحمائية سيناريو خاسر

عائدة أسعد

إن الحدّ من التسييس من شأنه أن يفيد مصالح الاتحاد الأوروبي، وتنمية العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، والتنمية والأمن العالميين.

لقد مارست الولايات المتحدة على مدى السنوات القليلة الماضية ضغوطاً على حلفائها لاحتواء الصين بشكل شامل، مما أدّى إلى تحولات دراماتيكية في الجغرافيا السياسية العالمية، واندلاع أزمة أوكرانيا، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى جانب تراجع القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، وزيادة العوامل السلبية في سياسته تجاه الصين، مما أدّى إلى اتجاه متزايد نحو التسييس والأمننة.

إن الاتحاد الأوروبي لديه احتياجات انفتاح اقتصادي متأصلة، فقد سعى تاريخياً إلى سياسة اقتصادية خارجية موجهة نحو التجارة الحرة بشكل عام، ولكن مع تراجع القدرة التنافسية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، ارتفعت المشاعر الحمائية في بعض الدول الأعضاء، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى اعتماد العديد من تدابير تخفيف التجارة.

وفي السنوات الأخيرة تدخل الاتحاد الأوروبي بشكل متكرّر في عمليات السوق تحت ستار تدابير مكافحة الإغراق ومكافحة الدعم، واستهدف العديد منها الصين. كما أطلق الاتحاد الأوروبي منذ بداية عام 2024 تحقيقات متعدّدة ضد الشركات الصينية، بما في ذلك شركة تصنيع القطارات بموجب لائحة الدعم الأجنبي، وأجرى مداهمات على مكاتب الشركات الصينية في أوروبا ومنذ 5 تموز، فرض الاتحاد الأوروبي رسوماً تعويضية مؤقتة على واردات المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات من الصين.

وفرض الاتحاد الأوروبي أيضاً قيوداً مختلفة على الاستثمار الثنائي بين الصين وأوروبا، وكثف الضوابط على الصادرات عالية التقنية، مما عزّز من أجواء التسييس والتأمين، وأصبحت السياسة التجارية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي تجاه الصين مشبوهة ودفاعية بشكل متزايد.

إن الاختلاف في الأنظمة السياسية بين الصين والاتحاد الأوروبي ليس قضية جديدة، إذ لفترة طويلة لم يعق هذا الاختلاف التعاون بين الصين وأوروبا، سواء في المجال الاقتصادي أو في الشؤون الدولية، حيث كانا شريكين جيدين في الحوار والتعاون.

ومع ذلك، ومنذ أن وصفت التوقعات الإستراتيجية للاتحاد الأوروبي والصين لعام 2019 الصين بأنها شريك رئيسي للتعاون، ولكنها أيضاً “منافس اقتصادي ومنهجي”، أثرت العوامل الإيديولوجية بشكل متزايد على سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الصين.

وفي السنوات الأخيرة، زاد الاتحاد الأوروبي بشكل كبير من خطابه وأفعاله السلبية فيما يتعلق بحقوق الإنسان وغيرها من القضايا المتعلقة بمنطقة شينجيانغ ومنطقتي هونغ كونغ وماكاو الإداريتين الخاصتين، وأصدر البرلمان الأوروبي عدة تقارير عن الصين تركز على القيم والاهتمام الإيديولوجي. كما قام بعض الساسة الأوروبيين، بما في ذلك أعضاء البرلمان الأوروبي، بزيارة تايوان بشكل متكرر، في خطوة اعتبرتها الصين استفزازية.

وفي المجال الاقتصادي بدأ الاتحاد الأوروبي أيضاً في النظر إلى الصين من خلال عدسة أيديولوجية، كما يتضح من التشريعات الأخيرة مثل التوجيه بشأن العناية الواجبة باستدامة الشركات والتي لديها توجهات أيديولوجية وقيمية قوية.

وعلى صعيد الدبلوماسية، يركز الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر على المنافسة الجيوسياسية، فعندما تولّت أورسولا فون دير لاين منصب رئيسة المفوضية الأوروبية في عام 2019، أعلنت عن نيّتها تشكيل مفوضية جيوسياسية، وعزّز الاتحاد الأوروبي تنسيقه مع الولايات المتحدة، فأنشأ مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإبراز صوت غربي موحّد. وفي الوقت نفسه أصدرت دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وألمانيا وهولندا، استراتيجيات “المحيطين الهندي والهادئ”، وعزّزت مشاركتها مع دول الجنوب العالمي.

وبذلك أصبح التوجّه الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي أكثر وضوحاً في منافسته مع الصين، وجهوده لمواجهة ما يراه نفوذاً صينياً. وعلى سبيل المثال، تهدف إستراتيجية البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي إلى مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وقد تركزت مناقشة اجتماعات مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن البيانات الصادرة عن قمة مجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي، بشكل متزايد على الصين.

الجدير بالذكر أن المفهوم الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي لعام 2022 عرّف الصين بأنها منافس نظامي لأول مرة، ولكن على الرغم من ذلك، لا يزال أساس العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي قوياً، ولم تتضاءل ضرورة الاتحاد الأوروبي للتعاون مع الصين بل زادت على التحو التالي:

أولاً: إن الأساس الاقتصادي للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي متجذّر بعمق، ويعود بفوائد متبادلة كبيرة، فالاتحاد الأوروبي هو ثاني أكبر شريك تجاري للصين، وثاني أكبر مصدر للواردات، وثاني أكبر سوق للصادرات، في حين تعدّ الصين ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، وأكبر مصدر للواردات، وثالث أكبر وجهة للصادرات. وعلى الرغم من انخفاض حجم التجارة في عام 2023 بلغ حجم التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي 783 مليار دولار، وزاد استثمار الاتحاد الأوروبي في الصين بنسبة 5.5 في المائة على أساس سنوي، ليبلغ 10.6 مليارات دولار في عام 2023. ومن حيث الواردات والصادرات، تشكّل الصين أهمية بالغة لاقتصاد الاتحاد الأوروبي، وإلحاق الضرر بهذه العلاقة من شأنه أن يلحق الضرر بالمصالح الاقتصادية للاتحاد الأوروبي.

ثانياً: يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى التعاون مع الصين لمعالجة القضايا والتحديات العالمية، إذ يواجه الاتحاد الأوروبي مجموعة من المشكلات مثل أزمة أوكرانيا، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتغيّر المناخ. وعلى النقيض من نهج “أميركا أولاً” المهيمن الذي تنتهجه الولايات المتحدة، تتقاسم الصين والاتحاد الأوروبي العديد من المواقف المتشابهة أو المتوافقة بشأن دعم مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والمعايير الأساسية للعلاقات الدولية والتعددية.

ثالثاً: هناك العديد من آليات الحوار والاتصال بين الصين والاتحاد الأوروبي التي تسهل الثقة المتبادلة، واستكشاف المزيد من فرص التعاون. وقد زادت التبادلات الثنائية وجهاً لوجه بين المسؤولين، والعلماء ودوائر الأعمال بشكل ملحوظ منذ عام 2023 وهذا يساعد في تعزيز الثقة السياسية وتوجيه التنمية الصحية والمستقرة للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي.

وحالياً، يفرض تسييس الاتحاد الأوروبي تحديات على العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، وهناك حاجة ملحة للصين والاتحاد الأوروبي لبناء الثقة المتبادلة، وإدارة الخلافات، والحدّ من سوء الفهم. وأولاً يجب على الجانبين التمسّك بروح الانفتاح والنتائج المربحة للجانبين من خلال تعزيز التعاون العملي في مجالات مثل التجارة والمناخ والحوكمة العالمية لتعميق التعاون المتبادل المنفعة. وثانياً، يجب بذل الجهود للحدّ من الجوانب السلبية من خلال تعزيز الحوار والتبادلات الصريحة على جميع المستويات وفي جميع المجالات بين الصين والاتحاد الأوروبي. وأخيراً، فإن تيسير التبادلات بين الشعوب أمر بالغ الأهمية للتنمية الصحية والمستدامة للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي على المدى الطويل.

إن سياسة الصين تجاه الاتحاد الأوروبي برأي المحلّلين السياسيين متسقة ويمكن التنبؤ بها، وترحب الصين باتحاد أوروبي قويّ ومزدهر يتمتع بالاستقلال الاستراتيجي، ولكن في حين تولي الصين أهمية كبيرة للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، فإن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى الردّ بالمثل من خلال الحدّ من الشكوك والتحيّز وتبني نهج أكثر هدوءاً وموضوعية.

وأخيراً يمكن القول إن الحدّ من الاتجاهات نحو التسييس والأمننة يخدم مصالح الاتحاد الأوروبي ذاتها، وتنمية العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، والتنمية والأمن العالميين.