فعل القراءة ونظرية جماليّة التّجاوب في الأدب
نجوى صليبه
اختار المترجمان الدّكتور حميد لحمداني والدّكتور الجلالي الكدية ترجمة كتاب “فعل القراءة.. نظريّة جماليّة التّجاوب في الأدب” للكاتب الألماني “فولفغانغ إيزر” ـ من منشورات مكتبة المناهل ـ فاس ـ، لأسباب وجيهة يوضحانها بالقول: “على الرّغم من الجهود المبذولة للتّعريف بجماليّة التّلقي أو بنظرية جماليّة التّجاوب في العالم العربي، فإنّ ترجمة النّصوص الأصلية لم تجد بعد انطلاقتها الحقيقية، لهذا تولّدت الحاجة لدينا إلى تقديم فصول شديدة الأهمية نترجمها إلى العربية، وتخصّ مجهود باحث رائد في هذا الاتّجاه، وقد ترسّخ العزم على القيام بهذا العمل أثناء اللقاء المباشر بالمؤلّف في ندوة “التّلقي والتّأويل” التي نظّمتها كليّة الآداب في الرّباط ومؤسسة “كونراد أديناور” بمدينة مراكش في عام 1993، وقد بدا هذا العمل قبل اللقاء بالمؤلّف شبه متعذّر، لأنّ معظم النّصوص الأصلية لهذه النّظرية كتبت باللغة الألمانية، لكنّ الكاتب أشار إلى أنّه كتب بنفسه خلاصة مركّزة عن نظريته باللغة الإنكليزية تفي بالغاية المطلوبة، وقد مزج فيها بين التّلخيص والتّرجمة الحرّة لأفكاره الخاصّة لكن هذه الخلاصة جاءت في شكل كتاب متعدّد الفصول”.
لكن ما كان موقف “إيزر” من ذلك؟، يبيّن المترجمان: “بدا سعيداً باقتراحنا ترجمة فصول من عمله إلى العربية، ولأنّنا لم نستطع إلّا التّرجمة الفرنسية، فقد أرسل إلينا نسخةً من الطّبعة الإنكليزية عندما رجع إلى ألمانيا، علماً بأنّه كان قد ألحّ في اعتماده هذه الطّبعة بالذّات دون غيرها، لأنّها عرضت من قبل المؤلّف على متخصّص راجع وصحّح العبارة الإنكليزية لتخليصها من رواسب السّليقة الألمانية”، وبعد استقرارهما على النّسخة، انتقلا إلى مرحلة اختيار فصول تكون دلالةً مركزيةً في نظرية المؤلف، ووقع اختيارهما على الأجزاء الثّلاثة المأخوذة من الأقسام: الأوّل والثّالث والرّابع من كتاب “فعل القراءة”، كما عمدا إلى وضع عناوين فرعية غير موجودة في الكتاب الأصلي، تسهيلاً لمهمة القارئ العربي وتتبع تفاصيل أفكاره وتحليلاته، وحرصاً على الأمانة العلمية وضعا هذه العناوين بين قوسين.
ويستهل المؤلف الجزء الأوّل “المبادئ الأوّلية لنظرية جمالية التّجاوب” بالحديث عن بداهة فعل القراءة، يقول: “بدأ التّأويل في يومنا هذا باكتشاف تاريخه الخاصّ، ولم يكتشف حدود معاييره الخاصّة فقط، بل أيضاً تلك العوامل التي لم يقيّض لها أن ترى النّور طوال مدّة سيادة المعايير التقليدية، والعامل الأكثر أهمية من بين تلك العوامل هو القارئ نفسه”.
لكن كيف تتفاعل بينة النّص مع المتلقي أو القارئ؟ يوضّح المؤلّف: “نبّهت نظريّة الفينومينولوجيا بإلحاح إلى أنّ دراسة العمل الأدبي يجب ألّا تهتمّ فقط بالنّص الفعلي، بل كذلك بالدّرجة ذاتها بالأفعال المرتبطة بالتّجاوب مع ذلك النّص، ومن هنا يمكن استخلاص أنّ للعمل الأدبي قطبين، فنيّ وجمالي، الأوّل: هو نصّ المؤلف والثّاني هو التّحقق الذي ينجزه القارئ عندما يمرّ عبر مختلف وجهات النّظر التي يقدمها النّص ويربط الآراء والنّماذج المختلفة بعضها ببعض فإنّه يجعل العمل يتحرّك كما يجعل نفسه يتحرّك كذلك”.
ويعالج “إيزر” مسألة التّجاوب الأدبي من منظور التّحليل النّفسي، مستعيناً بنظريتي “نورمان هولاند” و”سيمون ليسر”، كما يهتمّ بمعالجة المنظور الموجّه نحو القارئ وطبيعة النّصوص النّصية ومهمّات المؤول، يقول: “يجب أن تكون مهمّة المؤول توضيح المعاني الكامنة في النّص، وينبغي ألّا يقتصر على معنى واحد فقط، فمن الواضح أنّ المعنى الكامل الكلّي لا يمكن أبداً إنجازه من خلال عمليّة القراءة.. والآن بدأ الشّكل التّقليدي للتّأويل، وهو قائم على البحث عن المعنى الوحيد بإرشاد القارئ، وتالياً جنح إلى تجاهل طبيعة النّص بوصفه حدثاً وتجربة للقارئ ينشطها هذا الحدث في آن واحد”، مستذكراً اعتراضات رئيسة على نظرية التّجاوب الجمالي، أوّلها أنّها تضحّي بالنّص من أجل الاعتباطية الذّاتية للفهم، بواسطة فحص هذا الفهم في ضوء تحيينه، وتالياً تحرمه من هويته الخاصة، يضيف: “من الواضح أنّ النّص بصفته تجسيداً موضوعياً لمعيار مثالي، يشمل عدداً من الافتراضات التي لا يمكن التّسليم بها بتاتاً.. وهناك اعتراض آخر ضدّ التّركيز على تأثيرات النّص الأدبي، يمكن فيما يسميه “ويسمات” و”بيردزلي” بـ”المغالطة المؤثرة” إنّها “خلط بين القصيدة ونتائجها، تبدأ بمحاولة استمداد معايير النّقد من التأثيرات السيكولوجية للقصيدة وتنتهي بالانطباعية والنّسبية، والحصيلة هي أنّ القصيدة نفسها باعتبارها موضوعاً للحكم النّقدي بالتّحديد، تميل إلى الاختفاء”، ثمّ ينتقل إلى أنماط القرّاء، ويصنّفهم: “في المقام الأوّل هناك القارئ الحقيقي الذي نعرفه من خلال ردود أفعاله الموثّقة، وفي المقام الثاني هناك القارئ الافتراضي وهو الذي يمكن إسقاط كل تحيينات النّص الممكنة عليه، ثمّ القارئ المثالي، والقارئ المعاصر، ولا يمكن القول إنّ القارئ المثالي يوجد موضوعياً، بينما القارئ المعاصر يصعب تكييفه لشكل من أشكال التّعميم على الرّغم من أنّه موجود من دون شك”، ويوضّح: “إنّ اللجوء إلى علم النّفس كقاعدة لفئة خاصّة من القراء يمكن أن يُلاحظ لديها تجاوبات مع الأدب، لم ينشأ -على الأقلّ- بسبب رغبة في الهروب من الفئات الأخرى للقرّاء وافتراض قارئ قابل للوصف نفسانيّاً قد قوّى إمكانية إثبات التّجاوبات الأدبية، لأنّه يُظهر أنّ القارئ الذي يحيل إليه، له وجود حقيقي خاصّ به”.
وفي نظرة مركّزة على فئتين رئيستين من القرّاء، وعلى موقعهما في النّقد الأدبي، يقول المؤلّف: “يستحضر القارئ الحقيقي أساساً في دراسات تاريخ التّجاوبات، أي عندما يركّز الاهتمام على الطّريقة التي يتلقى بها جمهور معيّن القرّاء العمل الأدبي، وأيّاً كانت الأحكام التي قد تصدر على العمل، فإنّها ستعكس أيضاً مختلف مواقف ومعايير ذلك الجمهور، إذ يمكن القول إنّ الأدب يعكس السنن الثّقافي الذي يشرط هذه الأحكام”.
ويبيّن “إيزر” أنّ للقارئ المعاصر ثلاثة نماذج، أحدها حقيقي وتاريخي، مستخلص من الوثائق الموجودة، والأنموذجان الآخران افتراضيان، الأوّل مركّب من المعرفة الاجتماعية والتّاريخية للفترة التّاريخية المعنية، والثّاني مستنبط من دور القارئ المرسوم في النّصّ، ويوضّح: “يكاد يقابل القارئ المعاصر بطريقة مباشرة القارئ المثالي الذي يستشهد به في غالبية الأحيان، وإنّه من الصّعب التّحديد بدقّة من أين ينحدر القارئ المثالي، على الرّغم من أنّه يوجد الشّيء الكثير الذي يمكن قوله لمصلحة الادّعاء بأنّه يميل إلى الانبثاق من ذهن الفيلولوجي أو النّاقد نفسه”.
ومن هذا الوصف العام لمفهومي القارئين المثالي والمعاصر، تتولّد رغبة في الانفلات من الأصناف التّقليدية للقرّاء، يمكن أن تُلاحظ سلفاً في مختلف المحاولات التي جرت سابقاً لتطوير فئات جديدة من القرّاء بصفتها مفاهيم استكشافية، على حدّ قول المؤلّف الذي يوضّح: “على سبيل المثال هناك القارئ الأعلى، والقارئ المخبر، والقارئ المقصود، وعلى الرّغم من أنّ هؤلاء القرّاء يعدّون أوّلاً وقبل كلّ شيء تركيبات استكشافية، فهم مستخلصون من مجموعات معينة من القرّاء الذين لهم وجود فعليّ”.
وبحسب المؤلّف، يترتّب على هذه المفاهيم المختلفة للقرّاء الحقيقيين والافتراضيين قيود تقوّض حتماً قابلية التّطبيق العامّة للنّظريات التي ترتبط بها، ويوضّح: ” إذا أردنا محاولة فهم التّأثيرات التي تسبّبها الأعمال الأدبية والتّجاوبات التي تثيرها، يجب علينا التّسليم بحضور القارئ من دون تحديد مسبق لطبيعة أو وضعيته التّاريخية، ويمكن تسميته نظراً لعدم وجود مصطلح أفضل بالقارئ الضّمني، إنّه مجسّد كلّ الاستعدادات المسبقة الضّرورية بالنّسبة إلى العمل الأدبي لكي يمارس تأثيره، وتالياً فالقارئ الضّمني كمفهوم له جذور متأصّلة في بنية النّص”.
ويثير المؤلّف مفهوم القراءة كمشاركة، مبيّناً أنّه ليس مفهوماً جديداً، ويذكر أنّه في القرن الثّامن عشر كتب “لورانس ستورن” في روايته “تريسترام شاندي”: “الاحترام الأكثر صحةً الذي يمكن أن يوليه المرء لفهم القارئ هو أن يقتسم معه بالتّساوي هذا التّصوّر -تصوّر أي شيء- وبطريقة حبية، وأن يترك له شيئاً يتخيّله بدوره مثلما يترك ذلك لنفسه، ومن جانبي، سأقدّم للقارئ دائماً كلّ ثناء من هذا النّوع، وسأفعل كلّ ما في جهدي لأجعل خياله يشتغل مثلما يشتغل خيالي”، ويضيف المؤلّف: “وهكذا ليس أمام المؤلّف والقارئ إلّا أن يشتركا في لعبة الخيال التي لن تنجح إذا ما قرر النّص أن يكون أكثر من مجموعة قواعد موجّهة، تبدأ متعة القارئ عندما يصبح هو منتجاً”.
لكن هل تختلف القراءة عن أشكال التّواصل الاجتماعي؟ سؤال جوابه في قول المؤلّف: “هناك فرق بدهي وأساس بين القراءة وجميع أشكال التّفاعل الاجتماعي يتجلّى في عدم وجود وضعية “وجهاً لوجه” في القراءة، إنّ النّص لا يستطيع تكييف نفسه مع كلّ قارئ له اتّصال به، ويمكن للشّريكين في التّفاعل”.
محاور وتشعبات كثيرة يخوض غمارها المؤلّف، مستشهداً بنظريات متعلّقة بالموضوع لا مجال لذكرها جميعاً، لكن الملفت هو كثرة المراجع التي عاد إليها وذيّل بعناوينها نهاية كل فصل من الفصول الثلاثة، طبعاً بالإضافة إلى تخصيص قائمة بمصطلحات عربية وما يقابلها بالإنكليزية، أو ربّما العكس، وهذا أمرٌ نادراً ما يتبعه المترجمون أو المؤلفون.