دراساتصحيفة البعث

الهوس الأمريكي بمواجهة الصين

عناية ناصر

برز في السنوات الأخيرة اتجاه مقلق في الولايات المتحدة، حيث يبدو أن المشرّعين منشغلون بصياغة المقترحات والتشريعات ومشاريع القوانين التي تهدف إلى مواجهة الصين أكثر من معالجة القضايا الملحة التي تواجه ناخبيهم. وهذه الظاهرة ليست واضحة فحسب، بل إنها مثيرة للقلق بشكل متزايد، إذ أنها تؤكد على حقيقة مزعجة مفادها أن السعي وراء المصالح السياسية والمنافسة بالنسبة للعديد من الساسة الأمريكيين يتفوق على رفاهة الأمريكيين. فما هو سبب حدوث ذلك، ولماذا لا يبدو أن “الأمريكيين أولاً” يخطر ببال الساسة الأمريكيين، وكيف سيؤثر هذا الإهمال في النهاية بشكل خطير على البلاد؟.

الهوس بالصين.. تشتيت ملائم

يمكن النظر إلى الهوس بالصين باعتباره تشتيتاً ملائماً عن القضايا المحلية، فهو يسمح للمشرّعين بحشد الدعم الشعبي وخلق شعور بالوحدة ضد التهديد الخارجي المتصور، وهذا التكتيك ليس بجديد، فعلى مرّ التاريخ استخدمت الحكومات خصوماً خارجيين لتحويل الانتباه عن المشكلات الداخلية. وفي الولايات المتحدة، يخدم تصوير الصين كمنافس استراتيجي هذا الغرض جيداً، فهو يقدّم كبش فداء للمشكلات الاقتصادية والتأخر التكنولوجي، وغير ذلك من أوجه القصور.

هذا النهج معيب بطبيعته، لأنه يعطي الأولوية للمناورات الجيوسياسية على حلّ المشكلات الحقيقية في الداخل، فالمشهد الاقتصادي في الولايات المتحدة محفوف بالتحديات، وهنالك تفاوت في الدخل، والأجور راكدة، والبنية الأساسية منهارة، ونظام الرعاية الصحية متعثر، على سبيل المثال لا الحصر. ومع ذلك، وبدلاً من التركيز على السياسات التي من شأنها معالجة هذه القضايا بشكل مباشر، يختار المشرّعون الخطاب والتدابير المعادية للصين.

يتجلّى هذا الهوس في أشكال مختلفة، من فرض الرسوم الجمركية إلى تقييد شركات التكنولوجيا الصينية، إلى الانخراط في سباق تسلح جديد على غرار الحرب الباردة. صحيح قد تسجل مثل هذه الإجراءات نقاطاً سياسية، ولكنها لا تفعل الكثير لتحسين الحياة اليومية للأمريكيين.

المصالح السياسية على حساب رفاهية الناس

يكمن جوهر القضية في طبيعة السياسة الأمريكية نفسها، فالثقافة السياسية الأمريكية متجذّرة بعمق في السعي وراء السلطة، وغالباً على حساب الخدمة العامة، حيث يتأثر المشرّعون بشدة بمجموعات المصالح الخاصة، وجماعات الضغط التابعة للشركات، والحاجة إلى تأمين تمويل الحملات. وغالباً ما يتمّ اتخاذ القرارات في هذه البيئة، بناءً على ما سيجلب أكبر عدد من الأصوات أو الدعم المالي، وليس ما سيفيد الشعب الأمريكي. وفي هذا الإطار يوفر التشريع المتعلق بالصين أرضاً خصبة للاستعراض السياسي. فمن خلال اتخاذ موقف صارم تجاه الصين، يمكن للسياسيين مناشدة المشاعر القومية، والتي تكون قوية بشكل خاص في أوقات عدم اليقين الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية. وبذلك يخلق هذا التكتيك واجهة من القوة والحسم، حتى مع بقاء القضايا المحلية الأساسية دون معالجة. وعلاوة على ذلك، فإن الإجماع الحزبي بشأن الصين يسمح للسياسيين من كلا الجانبين بالتجمع حول قضية مشتركة، وبالتالي إخفاء الانقسامات العميقة والخلل الوظيفي داخل النظام السياسي الأمريكي.

لماذا لا يتبادر إلى الأذهان شعار “الشعب أولاً”؟

يتعارض مفهوم “الشعب أولاً” بشكل أساسي مع الأولويات الحالية للسياسيين الأمريكيين، فالنظام السياسي الأمريكي مصمم بطريقة تشجع على تحقيق المكاسب قصيرة الأجل على حساب الحلول طويلة الأجل. ويعمل المسؤولون المنتخبون ضمن حدود دورات انتخابية قصيرة نسبياً، وهذا يشجع على التركيز على المكاسب الفورية التي يمكن الترويج لها في إعلانات الحملات الانتخابية، بدلاً من التركيز على السياسات الشاملة التي تتطلب الوقت لتطويرها وتنفيذها ولكنها قد تحقق فوائد مستدامة للشعب.

علاوة على ذلك، يلعب المشهد الإعلامي دوراً مهماً في تشكيل الأجندات السياسية، فالإثارة والخوف تدفعان معدلات المشاهدة، ومن المرجح أن تجذب القصص حول “التهديد الصيني” انتباه الجمهور أكثر من المناقشات الدقيقة حول السياسة الداخلية. ويخلق هذا التحيز الإعلامي حلقة من ردود الأفعال، حيث يعطي الساسة الأولوية للقضايا التي من شأنها أن تولد عناوين رئيسية، الأمر الذي يزيد من تهميش الاحتياجات الجوهرية لناخبيهم.

الآثار طويلة المدى على الولايات المتحدة

إن الإهمال طويل الأمد للقضايا المحلية لصالح المواقف الجيوسياسية من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة على الولايات المتحدة:

أولاً، يؤدي هذا الإهمال إلى تآكل الثقة العامة في الحكومة، فعندما يرى الناس أن قادتهم أكثر اهتماماً بالتنافسات الدولية من حلّ مشكلاتهم اليومية، فإن ذلك يؤدي إلى نمو السخرية وخيبة الأمل، وهذا الانفصال عن العملية السياسية يقوض الديمقراطية نفسها، حيث يشعر المواطنون بأن أصواتهم لا تُسمع.

ثانياً، يؤدي التركيز على الصين إلى صرف الانتباه عن الاستثمارات الحاسمة المطلوبة في الداخل، فالبنية الأساسية والتعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية تعاني جميعها من نقص التمويل والإهمال. وهذا الافتقار إلى الاستثمار يضعف أساس المجتمع والاقتصاد الأمريكي، مما يجعلهما أقل قدرة على المنافسة على الساحة العالمية. ومن المفارقات أن المشرّعين الأمريكيين في محاولتهم للتنافس مع الصين يهملون العناصر ذاتها التي قد تعزز قوة البلاد من الداخل.

ثالثاً، يؤدي هذا النهج إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية، فالخطاب المحيط بالصين غالباً ما ينحرف نحو كراهية الأجانب والعنصرية، مما يؤدي إلى تأجيج التمييز والعنف ضد الأمريكيين الآسيويين. وهذا لا يضرّ المجتمعات فحسب، بل يصرف الانتباه أيضاً عن الوحدة اللازمة لمعالجة التحديات الجماعية.

تصحيح المسار

يتعيّن على المشرّعين الأمريكيين لتصحيح هذا المسار، تحويل تركيزهم مرة أخرى إلى احتياجات ناخبيهم. وهذا ينطوي على إعادة التفكير الجذري في الأولويات السياسية، ووضع “الشعب أولاً” في مركز صنع السياسات. وينبغي النظر إلى الاستثمارات في البنية الأساسية والتعليم والرعاية الصحية ليس فقط باعتبارها نفقات، ولكن كأساس لأمة مزدهرة وقادرة على المنافسة.

وعلاوة على ذلك، هناك حاجة إلى نهج أكثر توازناً للعلاقات الدولية، ولا ينبغي أن يأتي التعامل مع الصين على حساب معالجة القضايا المحلية، ولابدّ من صياغة السياسات الدبلوماسية والاقتصادية مع فهم واضح لتأثيرها على الأمريكيين. وسوف يتضمن هذا النهج المتوازن التعاون في مواجهة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والأوبئة والابتكار التكنولوجي، بدلاً من التخلف عن الركب والتحول نحو المواقف العدائية.

إن الهوس الأمريكي الحالي بمواجهة الصين هو أحد أعراض الخلل السياسي الأعمق، فمن خلال إعطاء الأولوية للمنافسة الجيوسياسية على الرعاية الاجتماعية المحلية، يفشل المشرّعون في خدمة الناس الذين انتُخِبوا لخدمتهم، وستكون العواقب الطويلة الأجل المترتبة على هذا الإهمال عميقة، حيث تعمل على إضعاف النسيج الاجتماعي والاقتصادي للأمة. ومن الضروري أن يعيد الساسة الأمريكيون ضبط أولوياتهم، مع التركيز على احتياجات ناخبيهم.