السينما من المسافة صفر
أمينة عباس
مَن يتابع ما يحدث اليوم في قطاع غزة من إبادة جماعية وقصف للمدارس والمستشفيات والمرافق العامة وكلّ ما تطوله أسلحة العدو الغاشم، انتقاماً من عملية “طوفان الأقصى”، يدرك أن فنّ السينما بكل ما يتضمنه من خيال ومبالغة لن يرتقي للتعبير ولو عن جزء يسير منه، وسيبقى عاجزاً عن فعل ذلك كما عجز سابقاً عن توثيق كمّ الجرائم الكثيرة التي ارتُكبت بحقّ الشعب الفلسطيني، من دون نكران وجود محاولات عديدة قدمها سينمائيون في توثيق المأساة الفلسطينية المستمرة والتي تؤكد في مجملها أن ما يجري، اليوم، في غزة من إبادة جماعية من قبل الاحتلال الإسرائيلي ليس جديداً على الحركة الصهيونيّة التي امتهنت الوحشية منذ عام 1948 بممارستها المستمرة لعملية التطهير العرقي في فلسطين عبر المجازر العديدة التي ارتكبتها في القرى والمدن الفلسطينيّة والتي تعيد ارتكابها، اليوم، في غزة لإجبار سكانها على النزوح.
ولا شكّ في أن الذاكرة الشفويّة الفلسطينيّة نقلت تفاصيل العديد من المجازر المروعة التي ارتُكبت على مدار سنوات النكبة من خلال من نجا منها والتي حرص مخرجون عرب وأجانب في السينما على توثيقها، انطلاقاً من إيمانهم بأن فن السينما كان وما يزال أحد أشكال المقاومة، وكثيرة هي أسابيع سينما فلسطين التي تُنظم، حالياً، في جميع أنحاء العالم لعرض نتاج هذا الفن من أفلام روائية ووثائقية تسلّط الضوء على ما جرى ويجري في فلسطين والمطابق لما تشهده غزة، اليوم، من حرب إبادة جماعية منذ السابع من تشرين الأول 2023 يقول المخرج العراقي قيس الزبيدي: “الفرصة الذهبية للقضية الفلسطينية كانت وما تزال في الفيلم الوثائقي لا الروائي، ذاك أن الفيلم الروائي حتى في حالاته الجيدة يبقى أسير تقاليد درامية يمكن ألّا تكون كافية لطرح القضية بالمستوى المطلوب، لتبقى المفارقة الأكثر غرابة هي أن الأفلام المتضامنة من الغرب مع القضية الفلسطينية كانت أكثر عمقاً في مساندتها”.
وكان لقطاع غزة في السنوات الأخيرة الحصة الأكبر من الأفلام التي أُخرجت في حقبات زمنية مختلفة من قبل مخرجين متعدّدي الجنسيات، حيث وثّقت أفلامهم التسجيلية ما كان يحدث من مآسٍ في غزة قبل طوفان الأقصى بفترات مختلفة، ويشير النقاد إلى أن فيلم “غيتو غزة” الذي أُنجز عام 1985 كان أول هذه الأفلام الوثائقية وأُنتج في غزة وكان من إخراج “بي هولمكويست” و”جوان مانديل” و”بيير بيوركلوند”، ويتناول الحياة تحت الاحتلال العسكري في جباليا أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والذي يصبح فيه الموت على يد العدو طقساً يومياً، والنزوح أمراً عادياً، وفي عام 2011 أخرج الفرنسيان من أصول عربية سمير عبد الله ـ لبناني ـ وخير الدين مبروك ـ جزائري ـ الفيلم الوثائقي “قصيدة غزة.. فلسطين”، ويعدّه النقاد من أكثر الأفلام التي سجلت ووثقت آثار اعتداء الاحتلال الإسرائيلي على غزة سنة 2009 أهمية، وفيه وقف المخرجان على هول ما تركه المحتل في قطاع غزة، مع تقديم شهادات لفلسطينيين تحدثوا عن أحلامهم ويومياتهم القاسية مع العدو، وفي المقابل اختار المخرج والمنتج الفرنسيّ “رولان نورييه” تقديم فيلم وثائقي مليء بالفرح والحب والجمال عن الفلسطينيين بعنوان “يلا غزة” الذي قدّم فيه صورة بانورامية عن بداية معاناة الفلسطينيين مع دولة الاحتلال منذ النكبة سنة 1948، كذلك تشبثهم بالحياة ومدى صلتهم وقربهم من الفنون، وخاصة الدبكة الفلسطينية التي تُعدّ تراثاً خاصاً يعكس هويتهم وانتماءهم، ليبيّن الفيلم أنهم كغيرهم من البشر يحبّون الحياة بكل ما فيها من أحلام وكوابيس، ويتطلعون لغد أفضل لا قتل فيه ولا قنابل.
واستطاع المراسل الحربي والمخرج الإيطالي “هيرنان زين” إنجاز الفيلم الوثائقي “وُلدَ في غزة” الذي نقل أوجاع وآلام وجراح أهالي غزة من جراء الحرب التي شُنّت عليهم بين شهري تموز وآب من عام 2014 وفيه صوّر المخرج المآسي الكبرى التي يعيشها قطاع غزة المحاصر منذ سنوات عدة بعيون عشرة أطفال بعمر الست سنوات يعيشون حياة صعبة بسبب الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والحصار الذي تعيشه مدينة غزة، فيروون فظائع الحرب وأثرها على البشر والحجر، يقول أحد الأطفال فيه: “أنا نفسي أروح على المدرسة، مفيش خوف ولا قنابل زي الناس التانية، وميضربوش دارنا، يصير هدوء وأعيش زي ما أطفال تانية عايشين”، وفي عام 2017 اختارت المخرجة الأسترالية “آن تسوليس” توثيق جانبٍ من الحرب الإسرائيلية على غزة، فأنجزت فيلمها “من تحت الركام” الذي تناولت فيه مجزرة عائلة السموني أو ما تعرف أيضاً بمجزرة حي الزيتون التي نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد الهجوم على غزة عام 2008 بحقّ عشرات العائلات من آل السموني والتي وصِفت بأنها إعدام جماعي، وقد روَت المخرجة تفاصيل هذه المجزرة على لسان بطلة الفيلم أمل السموني التي نجت بأعجوبة من المجزرة والتي بقيت تحت الركام ثلاثة أيام بين جثث أقربائها قبل أن يتمّ إنقاذها في اليوم الرابع لتعيش بعد ذلك مع 15 شظية في رأسها لا يمكن إزالتها، أما الصحافية ومعدّة البرامج والمخرجة الأميركية “آبي مارتن” التي رفضت الانخراط في خندق الاحتلال عام 2020 وسبق أن رُفض طلبها من أجل الدخول إلى قطاع غزة لتغطية الأحداث التي كانت تجري فيه وتغطية مظاهرات مسيرة العودة الكبرى التي تمّت مواجهتها بآلة القتل غيّرت وجهتها الصحافية عام 2018 باتجاه الفن السابع، حيث أنجزت عام 2019 فيلماً وثائقياً استفز الاحتلال الإسرائيلي بعنوانه “غزة تقاتل من أجل الحرية” وأثار جدلاً عالمياً بعد عرضه نظراً للفظائع الكبيرة التي نقلها وصوّرها، ومنها لقطات استثنائية لقنص رؤوس الأطفال من قبل جنود الاحتلال الصهيوني.
ما ذُكر سابقاً أُنجز قبل “طوفان الأقصى”، وما هو مؤكد أن غزة بأحداثها الدامية وواقعها وقصصها الكثيرة اليوم ستكون في المستقبل القريب تحت مرمى السينمائيين لتوثيقها وسرد حكايات لم تصلنا بعد، وهي حكايات كلّ الفلسطينيين، ويُحسب لمجموعة من مخرجي غزة المحاصَرين تحت القصف العمل ضمن مشروع “السينما من المسافة صفر” الذي يقوم على توثيق ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني اليوم، يقول المشرف على المشروع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: “نجح الشباب في إنتاج 22 فيلماً توثق جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة والمعاناة التي يعيشها أهلها من خلال رصدها للحكايات التي لم تُحكَ، حيث لا نحكي ما يعرفه العالم من خلال نشرات الأخبار بل نقدّم القصص الإنسانية والتجارب الشخصية، وهي موضوع أفلامنا لنعرّف العالم من خلالها على حجم الجرائم التي ارتُكبت في غزة”، وكان مشهراوي قد تحدث مراراً عن المخاطر التي واجهت المخرجين في تنفيذ الأفلام، حيث لم يسْتكمل أحد هذه الأفلام بسبب استشهاد المخرج أثناء التصوير، وعُرض قسم من الأفلام في سويسرا، وبسبب منع إدارة “مهرجان كان” في دورته الأخيرة عرض أي عمل يتعلق بالقضية الفلسطينية، حرص مشهراوي على نصب خيمة على الشاطئ في مدينة “كان” لعرضها وتعريف العالم بالمعاناة التي يعيشها أبناء شعبه من جراء جرائم الاحتلال.