من الأحقّ بوفورات عمليات الإصلاح.. الفرق الفنية أم وزارة المالية؟
علي عبود
تتباهى بعض الوزارات والإدارات العامة بقيام مهندسيها وفنييها بإصلاح بعض آلاتها المعطّلة وإعادة تشغيلها، وتحرص الحكومة في حال كانت عملية الإصلاح الذاتي كبيرة ومهمّة، ووفرت على الدولة ملايين الدولارات، على توجيه الشكر للفريق الذي قام بالإصلاح!!
وبما أنه لا صلاحيات الإدارات العامة، ولا صلاحيات الوزير، تتيح صرف مكافآت رمزية أو مجزية لمن قام بالإصلاح وإعادة التشغيل، فإن الأمر يحتاج دائماً إلى قرار من مجلس الوزراء، بل إلى موافقة مسبقة من وزير المالية!
والسؤال المشروع: من الأحقّ بوفورات أعمال الصيانة لخطوط الإنتاج أو الآلات وإعادتها إلى العمل: الفرق الفنية أم وزارة المالية التي لم ترصد أيّ مبلغ بالقطع الأجنبي لإصلاحها؟
مثال عن وفر بـ 207 ملايين ليرة
لقد قرأنا مؤخراً عن الفريق الهندسي والفني في مطحنة كفر بهم بريف حماة الذي تمكّن من إجراء صيانة فنية وميكانيكية وكهربائية للمطحنة القديمة، ما أسهم بتطوير طاقتها الإنتاجية من 60 طناً باليوم إلى 90 طناً، وفرت على الدولة نحو 207 ملايين ليرة، كان يمكن أن تكون كلفة إصلاحها أكبر لو استعانت الإدارة بفريق إصلاح من القطاع الخاص أو استقدام شركة أجنبية!
قد لا يشكّل مبلغ الـ 207 ملايين ليرة أهمية للحكومة، ولن يشكل فارقاً كبيراً بزيادة موارد الخزينة العامة للدولة، لكنه مبلغ كبير جداً فيما لو كانت التشريعات النافذة تجيز صرفه كاملاً على الفريق الذي قام بالإصلاح وإعادة التشغيل للخط الإنتاجي.
ولم يكن إصلاح مطحنة قديمة وإعادة دوران عجلاتها الإنتاجية عملاً استثنائياً، ففي كل عام يشهد قطاعنا الصناعي العام أعمال صيانة وإصلاح مختلفة، وكان آخرها إعلان وزارة الكهرباء بتاريخ 7/ 8/ 2024 إتمام أعمال الصيانة الشاملة على المجموعة البخارية الثالثة في محطة توليد كهرباء الزارة، نتيجة تشغيلها أكثر من 50 ألف ساعة.
من الأحق؟
ولم تكن أعمال الصيانة عادية أو روتينية، بل كانت متميّزة جداً، لأنها أعادت المجموعة إلى قيمها التصميمية الأصلية بعد أن انخفضت كفاءتها واستطاعتها المولدة بسبب التشغيل الطبيعي وانتهاء العمر التشغيلي لبعض أجزائها، ما انعكس تحسناً ملموساً بساعات التغذية.
وبما أن وزير الكهرباء أكد على أهمية الإنجاز الكبير بالاعتماد على الخبرات الوطنية، والذي وفّر مبالغ كبيرة من القطع الأجنبي على خزينة الدولة فإننا نسأل: من الأحق بكلفة أعمال الصيانة للمجموعة البخارية الثالثة في محطة الزارة والتي تفوق الـ7 ملايين يورو.. الفريق الهندسي والفني أم وزارة المالية؟.
ترى لو عزفت الخبرات الفنية السورية عن أعمال الصيانة، وقالت إنها عاجزة عن إصلاحها.. فماذا كان سيحصل؟.
في هذه الحالة، ستجد وزارة الكهرباء نفسها أمام خيارين: إما تأجيل أعمال الصيانة إلى أمد غير منظور، أو الطلب من وزارة المالية الموافقة على استقدام شركة أجنبية لا تقلّ أجورها عن 7 ملايين يورو، وهذا يعني أحقية الفريق الفني السوري بهذا المبلغ كاملاً طالما كان سيسدّده للأجنبي!.
لننصف من أنجز المهمة الصعبة
لقد أكد وزير الكهرباء غسان الزامل خلال حفل التكريم للمهندسين والفنيين والعمال المتميّزين على أهمية عمل الفنيين “الذين تمكّنوا بجهودهم ومساعيهم الكبيرة من إنجاز أعمال الصيانة ووفروا بذلك مئات الملايين من الليرات السورية عوضاً عن استيرادها من الخارج”، وهذا التكريم المعنوي جيد، ولكن ماذا عن الأجر المادي المجزي الذي يجب أن يوازي أجر الأجنبي؟.
وبما أن الوزير بيَّن “أن صيانة المجموعة الثالثة لم تتمّ على يد عمال أو فنيين عاديين، وإنما على يد خبراء مختصين ومحترفين عالميين، والدليل على ذلك هو إقلاع ودوران وإنتاج هذه المجموعة التي كان لها الدور في الكشف عن حجم المهارات والخبرات الوطنية وتحديداً في القطاع العام، الذين أثبتوا للقاصي والداني أن مهمتهم صعبة لكنها ليست مستحيلة”، فهذا يعني أنهم يستحقون الـ 7 ملايين يورو التي كانت ستتقاضاها أيّ شركة أجنبية.
عقود مع الخاص تكلّف المليارات
ومن الملفت والمستغرب جداً، إن بإمكان الوزير التعاقد مع شركات خاصة لإجراء أعمال صيانة وإصلاح لخطوط الإنتاج، كما حصل ولا يزال في عدد من الشركات وتحديداً معامل الإسمنت، أو محطات التوليد.. الخ بموجب عقود تكلف الدولة مليارات الليرات، لكن الوزير نفسه يكتفي بشكر الفريق الفني الذي يقوم ذاتياً بإصلاح الآلات والأعطال، وبصرف مكافأة مالية أقل من رمزية بعد انتزاع موافقة رئاسة الوزراء!.
نعم، السؤال الذي يجب على الحكومة الجديدة التي ستتشكّل قريباً أن تطرحه في اجتماع أو أكثر لمجلس الوزراء: لمن يجب أن تعود الوفورات المالية الناجمة عن عمليات الإصلاح في الشركات العامة، والتي كانت ستصرف للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي.. للفرق الهندسية والفنية أم لوزارة المالية؟.
لنعمل بمقولة رابح- رابح
ولو انطلقت الحكومة من مقولة “رابح رابح” لأحدثت نقلة نوعية في شركات القطاع العام الصناعي بإصدار صكّ تشريعي يجيز صرف الوفورات الناجمة عن عمليات الإصلاح للفرق الفنية، وهو صك يزيد دخل العاملين دون أن يُكبد خزينة الدولة أي عبء مالي.
لنلاحظ أن عملية إصلاح العطل في مطحنة كفر بهم زادت الإنتاج بكمية 30 ألف طن يومياً، أيّ أن هناك ربحاً محققاً للإدارة والوزارة والخزينة العامة، وكان يمكن أن يستمر العطل ولا يزيد الإنتاج بانتظار موافقة وزارة الصناعة واعتراض وزارة المالية لعدم توفر الاعتمادات.
تجربة ناجحة وأدتها “المالية”!
في ثمانينات القرن الماضي، اجتهد مدير عام إحدى الشركات فأبرم عقداً مع نقابة العمال بعنوان “عقد العمل الجماعي” نصّ على أن يقوم عمال الشركة بعد الدوام الرسمي بالعمل لعدة ساعات مقابل نسبة من أرباح بيع المنتجات، فماذا كانت النتائج؟
زاد إنتاج الشركة، وزاد دخل العمال، وقلّت الأعطال في خطوط الإنتاج، لأن العمال والفنيين حرصوا على صيانتها يومياً كي لا تتعطل ويقلّ معها دخلهم.
سمع وزير المالية بعد سنوات بتجربة العقد الاجتماعي فطرحه للمناقشة في مجلس الوزراء، وبدلاً من إعداد صكّ تشريعي لاعتماده في شركات أخرى، طالب بإلغائه لأنه يخالف الأنظمة النافذة، ولا ندري إن كان طالب رئيس الحكومة أو وزير الصناعة بإحالة المدير الذي ابتكر صيغة تحافظ على خطوط الإنتاج وتزيد الإنتاج ودخل العمال بمحاسبته لمخالفته التشريعات النافذة!.
والملفت أن هذه الصيغة التي تزيد القدرة الشرائية لملايين العمال وتوفر على الدولة المليارات التي تنفق على أعمال الصيانة والإصلاح سنوياً لم يدافع عنها التنظيم العمالي ويطالب بقوننتها، وهي لا تزال قابلة للتطبيق وخاصة في ظلّ الظروف الحياتية الصعبة.
الخلاصة
بدلاً من الانشغال بمناقشات سفسطائية عن إصلاح القطاع العام وتحسين الأوضاع المعيشية للعاملين بأجر، فلتقم الحكومات القادمة بإصلاح حقيقي، مثل صرف الوفورات الناجمة عن إصلاح الآلات وخطوط الإنتاج في الشركات العامة للفرق الهندسية والفنية، أي معاملتهم كالقطاع الخاص الذي يتقاضى أجره عن أي عمل يقوم به لصالح القطاع العام.