ناجي العلي!
حسن حميد
حيطان المخيم المائلة، في عين الحلوة، هي من كانت مهدوفية رسوم ناجي العلي الأولى، لقد رسم عليها أحلامه وأفكاره، وما تشيل به قولات الناس، وصدى القراءات التي حصدها من المدرسة، والكتب، واجتماعات الخلق، والحوارات التي كانت تعرّش قرب عتبات البيوت، وفي الظلال مثل الدوالي.. قطعاً لأوقات الانتظار والملل، ومحواً لكلّ يأس أو إحباط، وقد شكّلت رسوم ناجي العلي ظاهرة ثقافية في مخيم عين الحلوة، كما لو أنها معرض للفن التشكيلي أو أثواب جديدة للمخيم؛ أثواب فيها القول، والاحتجاج، والسخرية، والأحلام، ورفض الواقع، والمناداة بالرؤى العارف بدروب الخلاص.
لم يكن غسان كنفاني، الأديب الشهيد، هو الأول في اكتشاف هذه الظاهرة التي باحت بها حيطان الخيام المائلة، حين زار مخيم عين الحلوة، فقد سبقه الكثيرون إلى السؤال عن هذه الظاهرة، ومن هم أصحابها، لكن غسان كنفاني كان المكتشف الأول لموهبة ناجي العلي، لأنه سأل مرات عن بعض اللوحات التي شاهدها، وأراد التعرّف إلى رسامي أبناء المخيم الذين رسموها، فكانت جميعها لوحات لـ ناجي العلي، لذلك طلب التعرّف إليه، وحين عرفه وحاوره، أعجب به، وأخذ لوحاته ونشرها في الصحف والمجلات اللبنانية التي كان يعمل فيها محرراً، وكلّ اللوحات التي أشار إليها غسان كنفاني كانت لوحات رؤيا ولوحات موضوع، ولوحات أفكار فيها الدهشة، والمفارقة، والبساطة، والفطرة، وزخم القول، وعمق الرؤيا، والنفاذ إلى جوهر القضية الفلسطينية، كلاهما غسان كنفاني وناجي العلي كانا علوقين بالفدائي، وما اشتقّه من دروب، وما نادى به من أفكار، وما صنعه من أفعال، وما صاغها من توجهات غايتها الثورة على الإحباط واليأس والاستسلام للواقع الذي كان مزرياً بكلّ وجوهه.
بلى، أتحدّث عن ناجي العلي الفنان صاحب الرؤيا التي نادت بالمقاومة بكل أشكالها وأفعالها، ورفض اليأس بكلّ صوره وحالاته، وما يطرحه، وعن ناجي العلي الذي افترع درباً فنياً في رسم الكاريكاتير الذي صار الواسم له، ولرؤيته، ولخصوصيته في استنطاق الخطوط والكتل الفنية، وجعل التعليق بالكلمات ضرورة فنية مصاحبة للرسوم، وعن ناجي العلي الذي كان المرآة الحقيقيّة والواقعية لرسوماته، وفي أمرين أساسيين هما: الرفض والتمرّد من جهة، والعناد الوطني من جهة أخرى.
ترك ناجي العلي وراءه حوالي الـ 50.000 لوحة، معظمها عرف طريقه إلى النشر في الصحف والمجلات والظهور العلني في لوحات المعارض الخاصة بفن الكاريكاتير، لذلك عُدّ من بين أكثر رسّامي الكاريكاتير أصحاب الأساليب الفنية الجديدة أهمية، ومثل هذه الكثرة تُحسب معانيها لـ ناجي العلي، لأنها لا تعني الاستمرارية والاجتهاد فقط، إنما تعني أنّ القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرّر عالمي من ربقة الاستعمار الكولونيالي الأخير في العالم، هي قضية كل إنسان لا يطيق الظلم، وقد أسهمت هذه الكثرة في اللوحات وانتشارها في فضاءات ومشاهد ثقافية عدة، في توكيد حضور القضية الفلسطينية وانتشارها بقناعات أهلها، أي السردية الفلسطينية، لتصير كتاب الفلسطينيين المكتوب بالخطوط، والكتل الفنية، والمدهش حقاً هو أنّ رسوم ناجي العلي غيّرت طريقة قراءة الصحف، لأنها كانت هي أول ما يقرأ في الصحيفة اليومية حتى لو كانت منشورة في صفحتها الأخيرة، لأنّ هذه الرسوم تلخّص أحداث اليوم السابق تعليقاً وتأويلاً وتصويباً للأفكار والأفعال والممارسات عبر ثنائية تقابلية: في طرفها الأول الحال الفلسطينية، وفي طرفها الثاني العدو والآخر في آن معاً.
ناجي العلي الذي اغتاله عقل مريض، وكاتم صوت أعمى، وغيّبت حضوره ذهنية جاهلية قليلة الحياء، كثيرة الغباء، ذهنية لا علاقة لها بالبشر، ولا بالقيم، ولا بالأخلاق، كان حالاً إبداعية نادرة، أوقف ليله ونهاره، وموران عقله، وثقافته، من أجل أن يجعل من الفن كتاباً ثقيلاً لتاريخ الشعب الفلسطيني، والحق، إنّ 50.000 لوحة فيها الجمال الفني، والسخرية المرّة، والنقد المذهل، والاستبطان الخلّاق، لهي كتاب القضية الفلسطينية في أربعة عقود فلسطينية ماضيات امتازت بالصخب والغضب، والغموض والوضوح، وبيان الفوارق بين الرؤيتين السياسية والعسكرية، ونقاط التلاقي لتفعيل العزوم، ونقاط الافتراق لبيان وجوه الضعف والخور.
ناجي العلي معجزة فنية، وذهنٌ وقّاد، وروح مفطورة على الإبداع، وقدرة عجيبة على توليد المعاني، والمفارقات من أجل أن تظلّ راية النبل عالية، حاضرة، حرّة، وشارقة الألوان.
Hasanhamid55@yahoo.com