حبيب الإبراهيم: الصورة الشعريّة تتيح الغوص في أعماق المفردات
هويدا محمد مصطفى
من قريته قصر ابن وردان الغافية على تخوم البادية في ريف حماة الشرقي، كانت طفولته ويفاعته الأولى، هناك حيث البراءة، والطيبة، والبساطة، والقرية البكر، ومدى واسع من حقول الحنطة، وحواكير ترسم لوحة شعرية تستمدّ حروفها وصورها من شقاوة الأطفال وشغب العصافير.. بيادر توزع خيرها على وجوه لا تعرف اليأس أبداً، مفردات بسيطة، معبّرة شكّلت مخزوناً لغوياً وشعرياً للكاتب والشاعر حبيب الإبراهيم، بدأ الشاعر مسيرته الأدبية منذ أربعة عقود، حيث نشر أول قصيدة وكانت في جريدة “البعث” عام ١٩٨٤، كتب المقالة والخاطرة والدراسة والزاوية الصحفية، وفي رصيده مجموعتان شعريتان صدرتا مؤخراً، كما لديه العديد من المخطّطات في الشعر والمقالة، يقول: “بداياتي في النشر كانت منذ عقود لكنّ مجموعتي الشعريّة “الحواكير العتيقة” تأخرت كثيراً لظروف عديدة، لكنها رأت النور، مؤخراً، مع مجموعتي الثانية “أناشيد الظلال”، في قصائد المجموعة بوح شفيف وحنين إلى الماضي الجميل، حيث مرابع الطفولة، هناك أمداء لا تنتهي من التأمل والملاحظة، آثار ضخمة بجوار بيتنا الطيني، وطرقات ترابية، والمنزول المبنيّ من الحجارة والطين، وبئر الماء، والدلو، وقباب الطين، والحصاد، والبيادر”، ويتابع حبيب “كل هذه الصورة موشومة في ذاكرتي ومخيلتي، وعندما تطلّ القصيدة تطلّ هذه الصور بجمالياتها ولا أستطيع إلا أن أكون وفيّاًً لتلك البيئة النبيلة”.
وعن علاقة الشعر بالمقالة والخاطرة والزاوية الصحفية يوضح: “الكتابة بالنسبة إليّ حياة، هي الحبل السريّ الذي يمنحني الاستمرارية، بدأت بكتابة الشعر الذي يختلف عن الكتابة الصحفية، الشعر وتحديداً قصيدة النثر تقوم على الاختزال والإدهاش والصورة الشعرية المبتكرة، بينما فنون الكتابة الأخرى من مقالة، وخاطرة، ودراسة نقدية، وزاوية صحفية أو تحقيق صحفي تعتمد على الإسهاب، تعدّد الأغراض في المادة الواحدة، ومن بوابة الشعر وجدت نفسي في بلاط صاحبة الجلالة فعملت مراسلاً لـ”البعث” في التسعينيات، كما نشرت مئات المقالات الأدبية والحوارات الصحفية مع أدباء وفنانين ومبدعين في شتى المجالات في صحف عدّة منها “الفداء” و”الأسبوع الأدبي” و”بناة الأجيال” و”جيش الشعب”، وهذا التنوع في الكتابة انعكس إيجابياً في قصائدي التي كتبتها على مدار أربعة عقود وجميعها منشورة في الصحف والمجلات المحلية والأدبية”.
ويتابع الإبراهيم: “لم أحترف الصحافة إنّما بقيت هاوياً وعاشقاً لها، وهذا أعطاني مساحات واسعة من حرية الكتابة واختيار المواضيع الأكثر تماساً مع الناس، كما أن مهنة التعليم والتدريس وعملي في الشبيبة أضاف لتجربتي الكثير من الغنى والتنوع وطرح هموم شريحة كبيرة من مجتمعنا هي الأكثر اتساعاً وحضوراً على مستوى الأسرة والوطن”.
وعن رأيه بقصيدة النثر والقصيدة العمودية يقول: “على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين من يكتب الشعر الكلاسيكي أو القصيدة العمودية، وبين من يكتب قصيدة النثر فإن الأخيرة أثبتت وجودها وحضورها، ولا يمكن تجاهلها أو عدم الاعتراف بشرعيتها، وقصيدة النثر أكثر قدرة على التعبير وطرح القضايا التي تشكّل هاجساً في المجتمع، سواء ما يتعلّق بالقضايا الوطنية، أم الاجتماعية أم الإنسانية، وما يميّز قصيدة النثر عن سواها من أصناف الشعر الأخرى، سواء القصيدة العمودية أم قصيدة التفعيلة، هو التعبير بالصورة الفنيّة من خلال استخدام معانٍ للكلمات تبدو غير اعتيادية، أو مألوفة بالنسبة للقارئ العادي، فتكون الصورة أكثر إيحاءً وأكثر دقّة وجمالاً، والصورة الشعريّة تتيح للشاعر المتمكن من أدواته الغوص في أعماق المفردات بحريّة مطلقة، وإيقاظ بواطن الجمال فيها بدقة متناهية وإدهاش ممتع”.
أما بالنسبة إلى شعر المناسبات فيجد الإبراهيم أنه لا يعمّر طويلاً، ومن يقتصر شعره على المناسبات هو شاعر يعزل نفسه، يتقوقع مع ذاته، ويبتعد بإرادته عن قضايا الناس الحيوية واليومية، ولا بدّ من أن يأتي يوم يفقد فيه ديمومته وصداه، ويضيف: “شعر المناسبات مؤقت لا يمكن أن يستمر مع الأجيال اللاحقة، وهذا دليل حتميّ على التراجع أو الوقوف في المكان على أبعد تقدير”.
وحول ظاهرة غياب النقد وانتشار نقاد التواصل الاجتماعي يقول: “ما نقرؤه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويسميه البعض نقداً لا يعدو عن مجاملات قائمة على مصالح شخصية، وهذا ليس نقداً، وكتبت أكثر من مقالة وزاوية صحفية حول هذا الموضوع، إذ من غير المعقول أن ما يتمّ نقده وكيل المديح لصاحبه أو صاحبته يعجّ بالأخطاء الإملائية والنحوية، وأحياناً لا يمتّ للشعر أو النثر بصلة.. النقد هو بوابة مفتوحة على أمدية واسعة تأخذ على عاتقها التعريف بالكتاب المراد تسليط الضوء عليه، وبالكاتب ومسيرته الإبداعية وخبرته الحياتية، مع الإشارة إلى الهنات والملاحظات التي يبديها الناقد بحيادية وموضوعيّة، بعيداً عن العلاقات الشخصية والمصالح الضيّقة، وعلى الناقد أن يكون حيادياً ويستند على أسس ومقومات علمية ومنطقية حتى يكون منصفاً في تحليله ونقده وملاحظاته”.
ويتابع الإبراهيم حديثه لـ”البعث” بالقول: “يستمدّ الشاعر عناصر قصيدته من بيئته، ويبثّ فيها من روحه، وتكتمل القصيدة عند الشاعر عندما يحدّد الهدف منها وهل تُحقّق قيمة مضافة للمتلقي أو القارئ، فمن غير المقبول أن يكتب الشاعر لمجرد الكتابة، هناك قضايا كبرى هي في مقدمة تفكير وهاجس الشاعر، قضايا الوطن والمجتمع والإنسان والحياة”.
وحول القضايا الأخرى التي يطرحها في قصائده يتابع الإبراهيم: “يجد الشاعر أو الكاتب نفسه في خضم القضايا الكبرى، لأنّه يمتلك عيناً ثالثة يرى بها ما لا يراه الآخرون، لذلك كانت قضايا الوطن في أولوية ما كتبت، وخاصة عندما يتعرّض للعدوان أو التآمر، بالإضافة إلى القضايا الاجتماعية والإنسانية، كتبت عن المرأة، والحب، والغزل، والمعلم، والزلزال، والشهادة والشهداء، والقرية”.
وبالنسبة إلى الكتاب الإلكتروني وانتشاره يقول: “الكتاب خير جليس، وخير أنيس وخير صاحب، وخير رفيق، في صحبته متعة، وفي رفقته فائدة، ولعلّ دوره لا يتوقف عند جانب محدّد، بل يمتاز بالإحاطة والشمولية، في السنوات الأخيرة ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي تراجعت مكانة الكتاب، وتراجع انتشاره وخاصة بين فئات اليافعين والشباب، ليحلّ مكانه الكتاب الإلكتروني الذي يمكن تصفّحه عبر الشابكة، لكن مُتعة قراءة الكتاب الورقي لا يجاريها متعة، فنحن نتلمس الورق ونشمّ رائحة الحبر، الكتاب الورقي هو ذاكرة لا تشيخ أبداً”.
وبسؤاله عن الحراك الثقافي في وقتنا الحالي يقول الإبراهيم: “في أي مجتمع، يجب أن يواكب الحراك السياسي والاجتماعي، فعندما يتعرّض الوطن للخطر يجب على المثقف المبدع بكل مسمياته إثبات وجوده وطرح رأيه بحرية، وحمل قلمه إلى جانب الجندي للدفاع عن الوطن، وعلى الأديب بثّ الروح الإيجابية بين الناس وعيش معاناتهم، بعيداً عن الأبراج العاجية التي يضع فيها بعض الكتاب أنفسهم، وينظرون للآخرين من الأعلى”.