دراساتصحيفة البعث

غزة تسجل أكبر عمليات قتل للصحفيين في العالم

عناية ناصر

سقط أكثر من 100 عامل في المجال الإعلامي في غزة منذ تشرين الأول، وهو عدد يفوق ضحايا الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية مجتمعتين. وقال إسخيلوس أهم كتّاب المأساة الإغريقية على الإطلاق: “في الحرب، الحقيقة هي الضحية الأولى”.

في العصر الحديث، يشمل هذا الصحفيين المكرّسين لكشف تلك الحقيقة، ففي الثاني والعشرين من آب الماضي أفادت لجنة حماية الصحفيين أن 116 صحفياً وعاملاً إعلامياً على الأقل قُتلوا في غزة منذ بدء الحرب العدوانية، وهذا هو أعلى عدد ممن سقطوا في أي صراع منذ بدأت لجنة حماية الصحفيين في جمع البيانات في عام 1992.

ومن المرجح أن يتوسّع هذا العدد في الأسابيع المقبلة، حيث لا تزال المجموعة تحقق في ما يقرب من 350 حالة إضافية من حالات القتل والاعتقال والإصابة المحتملة للصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام في غزة، وهذه الأرقام تقزم تلك الخاصة بالصراعات الأكبر والأطول كثيراً، فخلال الحرب العالمية الثانية بأكملها، استهدف 69 مراسلاً، وفي الحرب الكورية، سقط 17، بينما سقط ثلاثة وستون في فيتنام، و في حربي أفغانستان والعراق في هذا القرن سقط 65.

وكانت أحدث الوفيات التي حقّقت فيها لجنة حماية الصحفيين في غزة هي في 31 تموز الماضي باستهداف الصحفي الفلسطيني إسماعيل الغول والمصور رامي الرفاعي، بصواريخ إسرائيلية أصابت السيارة التي كانا يستخدمانها في مخيم الشاطئ بالقرب من مدينة غزة، وهما يحققان في اغتيال إسماعيل هنية، أثناء وقوفهما أمام منزله لمدة خمس دقائق، حيث تمّ استهدافهما بدم بارد.

في الأول من آب الماضي، أكدت قوات الكيان الإسرائيلي أنها استهدفت الغول في غارة جوية، ووصفته بأنه عضو في الجناح العسكري لحركة حماس، وزعمت أن أنشطته في الميدان كانت جزءاً حيوياً من النشاط العسكري لحماس، كما زعمت قوات الكيان الإسرائيلي أن استهداف الغول مبرّر لأن الغول كان مشاركاً بنشاط في تسجيل ونشر الهجمات ضد القوات  الإسرائيلية.

لقد كانت تلك الاتهامات بلا دليل، وتسلّط الضوء على تاريخ “إسرائيل” الطويل من التلفيق والأدلة الكاذبة المستخدمة للتغطية على جرائمها الشنيعة، وقد تجاهلت معظم وسائل الإعلام الغربية هذه الحالات، مثل العديد من الحالات الأخرى، لكنها لم تفلت من انتباه إيرين خان، المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحرية الرأي والتعبير. وقالت خان: “يبدو أن القوات الإسرائيلية توجّه اتهامات دون أي دليل جوهري كإذن بقتل الصحفيين، وهو ما يتعارض تماماً مع القانون الإنساني الدولي، ومثل العديد من الصحفيين الذين قُتلوا في غزة، كان الغول يرتدي سترة صحفية مميزة بوضوح عندما أصاب صاروخ طائرة بدون طيار إسرائيلية السيارة”.

وتذكر خان بأن الصحفيين يتمتّعون بالحماية باعتبارهم مدنيين وأن استهدافهم المتعمد يعدّ جريمة حرب، ووفقاً للقانون الإنساني الدولي، لا يفقد العاملون في مجال الإعلام وضعهم المدني إلا إذا شاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية. وحتى الآن، لم تقدّم “إسرائيل” أدلة ملموسة على انخراط الصحفيين في أي أعمال عدائية، وتدعو المقرّر الخاص المحكمة الجنائية الدولية إلى “التحرك بسرعة لمقاضاة قتل الصحفيين في غزة باعتباره جريمة حرب”.

إن الاستهداف غير المسبوق للصحفيين في غزة هو جزء من تراجع خطير استمر لعقد من الزمان في حرية وسائل الإعلام وسلامتها في جميع أنحاء العالم. في عام 2013، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً أعلن يوم 2 تشرين الثاني “اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين”، وحثّ النص الدول الأعضاء على تنفيذ تدابير محدّدة لمواجهة ثقافة الإفلات من العقاب الحالية. ومنذ ذلك الحين، تفاقمت المشكلة، حيث يوضح تقرير صدر عام 2022 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الارتفاع المستمر في الهجمات واستهداف الصحفيين، وتجريم الصحافة، بما في ذلك المضايقات القانونية والقضائية، والتآكل العام لاستقلال وتعدّد وفعالية وسائل الإعلام من قبل الجهات الفاعلة الحكومية والشركات، بما في ذلك الشركات الرقمية.

ووفقاً للمرصد الذي أنشأته اليونسكو “للصحفيين المغتالين” استهدف بين عامي 2006 و2023، أكثر من 1600 صحفي في جميع أنحاء العالم، مع بقاء ما يقرب من 9 من كل 10 حالات قتل دون حلّ قضائي.

وحذّرت وكالة الأمم المتحدة من أن “الإفلات من العقاب يؤدي إلى المزيد من عمليات القتل، وهو غالباً ما يكون أحد أعراض تفاقم الصراع وانهيار القانون والأنظمة القضائية”، وأضافت الوكالة: “إن الإفلات من العقاب يلحق الضرر بالمجتمعات بأكملها من خلال التستّر على انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والفساد والجريمة، ويطلب من الحكومات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام وكل من يهتمّ بدعم سيادة القانون الانضمام إلى الجهود العالمية لإنهاء الإفلات من العقاب”.

وأشارت الوكالة إلى أن عمل الصحفيين مهمّ بشكل خاص في “عام الانتخابات الكبرى” القادم، عندما يتوجّه نحو 2.6 مليار مواطن إلى صناديق الاقتراع، وأكدت على تفويض اليونسكو، الذي تبنّته في عام 1997، لإدانة “الاغتيال وأي عنف جسدي ضد الصحفيين باعتباره جريمة ضد المجتمع”، فكم عدد الصحفيين الذين يجب أن يموتوا قبل أن تستجيب دول العالم لهذا النداء؟.