التواضع نعمة أم نقمة؟
غالية خوجة
التكبّر والتجبّر صنمان غير مرئيين في النفس البشرية، تماماً، مثل صفات سلوكية سلبية أخرى. مثلاً، إنسان يعتمد في اتخاذ قراراته لا على ما يعرفه، بل على ما يسمعه من الناس من دون تمحيص بين مغرض وجاهل، ومن دون التدقيق بآرائهم الصادرة عن وجهة نظر ناتجة عن مفهومٍ ما عاكسٍ لثقافتهم وأخلاقهم، بينما في الواقع، فالآثار تشير إلى ضوئها الذي عبر ورآه آخرون ظلاماً!
وبالمقابل، رجاحة العقل تثبت من خلال سلوكيات معيّنة تترك آثارها العميقة في القلوب والأرواح والأزمنة والأمكنة، فتراها مضاءة بالحكمة والعدالة والتوازن المنطقي والتناغم الحياتي والمرونة غير الساذجة والطيبة غير المتهورة.
وهذه الرجاحة الواعية تنعكس من خلال التواضع الجميل في التعامل مع الذات والآخرين، على عكْس التكبّر والتجبّر، لأن المتواضع يعلم ما فيه من كنوز معرفية وثقافية وعلمية، وبوصلتها التعامل الخلوق، لأنه من المكارم.
كلما تعاظم داخلُ الإنسان تواضع، والتعاظم ليس منصباً، ولا مالاً، بل معرفة روحية وعقلية وثقافة حياتية قابلة للتطور المستدام لتبني ذاتها وعائلتها ومجتمعها، ولتستطيع إنجاز هذا البناء، فهي، وبفطرتها، متواضعة، تفعل الخير من دون أن يُطلب منها، وتساعد الناس، وتسيّر أمورهم، وتعطي من دون مقابل، وهذا ديدنها الذي يسعدها في وجودها الدنيوي وغيابها في الأخروي.
لكن، لماذا كلما ازداد الإنسان المتّزن تواضعاً وطيبة، ظنّه بعض الناس بسيطاً؟
ربما لأن هؤلاء اعتادوا في بنيتهم وبيئتهم الاجتماعية على صورة المتكبّر والمتجبّر والقابيلي – نسبة إلى قابيل – التي علّقها وهْمُهم على جدران عقولهم وقلوبهم، وترسّخت نتيجة حضور “عكّيد الحارة” في المجتمع، ولذلك، إذا ما تحركت شخصية هذه الصورة، وسلّمت عليهم، فرحوا، وإذا ما تحرك هذا الوهم وحكى معهم، كانوا سعداء، متناسين عذاباتهم الحياتية مع هذه الشخصية المغرورة، بينما هم لا يكترثون كما يجب بالإنسان الطيب الحكيم الذي لم يترفّع عنهم أبداً، لأنه موقن أن نهاية الجميع ستكون في تلك الحفرة المنتظِرة تحت الأرض.
التواضع مقام رفيع لا يجيده إلا العظماء المحظوظون حقاً، الذين لا يكترثون لمنظار غير واعٍ يضعه بعض الناس لعيونهم أو قلوبهم أو عقولهم، وكيف تبدو صورتهم في هذا المنظار الكئيب، لأن هدفهم تقديم ما وهبهم إياه الله للناس، إنهم سعداء وهم يعطون العلم والمعرفة والثقافة، ومنهم من هو غنيّ، فيعطي المال أيضاً، وينسى ما قدّم وأعطى، لأنه يشعر بأن ما يفعله هو واجبه الأخلاقي، وأنه مفتاح سعادته الأبدي، وهذه نعمة بالنسبة إليه، حتى ولو انقلبت نقمة عليه تبعاً لمنظور ومفاهيم بعض الناس.
وهذا ما سنّه الأنبياء والرسل والحكماء والصالحون الذين تواضعوا وهم عارفون بكنزهم المخبوء فيهم، الموقنون بالمكنون لهم بعد رحلة الحياة العابرة، وهذا ما فعله إسماعيل مع أبيه إبراهيم عليهما السلام، فقال له: “يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين”، ولم يكن مثل ابن نوح عليه السلام الذي لجأ إلى الجبل ليعصمه من أمر الله، وهكذا، ما أجمل التواضع، خصوصاً، عندما يكون للوالدين، والأقربين، والأهل، والناس.
إن من يتواضع شخص محبوب على الدوام، لأن التواضع يقينه المضاء بمحبة الخالق، ومن أحبّ الخالقَ أحبّ الخلْق، وأكّد هذا الحب بكلماته الطيبات، وأفعاله المشرقة، وهي سمات ليست مفروضة عليه بكل تأكيد، فإذا ما قصّر مرةً، لا تلومونه، فلربما يعاني مع وحدهِ آلاماً وأحلاماً كثيرة، وريثما يستعيد توازنه ترونه بينكم متواضعاً، طيباً، شفافاً مثل فراشة.