ثقافةصحيفة البعث

“تكوينات متمردة” لسيف داود.. اللعب بالحركة بمنظور هندسي

ملده شويكاني

عبّر الدكتور المهندس الفنان السوري سيف داود المغترب في ألمانيا بلوحة “العناق” عن حال كثيرات، همّشهن الرجل حتى في الحالة العاطفية، فيجسّدها في عناق عميق، بينما يشيح الرجل عنها بوجهه إيماءة إلى حالة اللامبالاة العاطفية، ليمارس نرجسيته على الأنثى، ولفتت هذه اللوحة -تتبع لمسار الفن المعاصر الخط التشكيلي الذي يكمل به داود تجربته الإبداعية- الانتباه في معرضه الذي أقيم في صالة الشعب أثناء زيارته أرض الوطن، بعنوان “تكوينات متمردة”.

وربما يشعر المتلقي للوهلة الأولى بالغرابة من التكوينات التي تشغل مكانها ضمن فضاء مسرحي، لتأخذ الشخوص دورها بإيقاع وحركة متجانسة مع اللون المتميّز بدرجات متعدّدة للون الواحد، وبتوظيفه ألواناً مبهجة أضفت إضاءة على اللوحات مثل الزهري والأصفر والتركواز، مستخدماً ألوان الإكليريك ومواد مختلفة على القماش، مركزاً على غموض الملامح والتقطيع في مواضع، ومتأثراً بالتعبيرية الألمانية وبانتقالاته بين مدن أوروبا واستقراره في ألمانيا منذ عام 2016، من دون التّخلي عن خصوصية الفنّ السوري والتراث الكردي لمنطقته القامشلي.

ونفّذ لوحات المعرض بأحجام كبيرة أثناء زيارته دمشق بما يتناسب مع مساحة صالة الشعب، وتناول موضوعات إنسانية وحياتية شغل فيها الإنسان بحدّ ذاته، سواء الأنثى أم الرجل الحيّز الأكبر، ويأتي هذا المعرض بعد أعمال كثيرة تطرق فيها إلى معاناة الإنسان بصور مختلفة، وانعكست على ملامح وجوهه البائسة.

ومن معرض “تكوينات متمردة” الذي حظي باهتمام شخصيات فنية وثقافية، بدأ حديث “البعث” معه، فأوضح أنه اشتغل بأدوات المجتمع الألماني حتى تمكّن من إقامة معارض عدة في ألمانيا استحوذت على الإعجاب، ومن خلال توظيفه التعبيرية الألمانية بطريقته الخاصة بالفن المعاصر والحداثة، وتابع: “أردتُ تقديم أسلوبي الذي أعمل به بألمانيا في سورية بمعرضي، وأطلقت عليه هذا العنوان لوجود تكوينات غير مألوفة بثقافة المجتمع السوري، من حيث الأشخاص والهياكل والكلاب بطريقة سلسة مختلفة عن لوحتي بألمانيا الحافلة بكامل التفاصيل، بينما في هذا المعرض حرصت على احترام مجتمعنا ومعتقداته وتقاليده، أما عن التقنية اللونية فأخلق من خلالها لوناً جديداً، إذ لا أستطيع العمل على مستوى اللون التقليدي العادي، فاللوحة ذاتها تتميّز بلون لكن ضمن درجات متعدّدة، فحركة الألوان وتفاعلها مع بعضها البعض توجد حالة تكامل هارموني بعيداً عن النشاز، تدلّ على تمكّن الفنان وحركة يده وتكنيكه”.

وفي حديثه عن مضامين اللوحات، أشار داود إلى أن “الفنان يجد تيمة موضوعاً للمعرض وضمن الموضوع يتحرك، فقد تختلف الأشخاص والتكوينات لكن الفكرة ذاتها موجودة، من حيث بعض الوجوه، سواء أكانت بشرية أم لا، وحركة الأشخاص، فقوة الفنان تبدو باللعب بالحركة بمنظور هندسي، وبتركيب المكان للعنصر بحيث يأخذ وضعيته الصحيحة ضمن اتجاه الفن المعاصر الذي يقدّم فيه الفنان أسلوبه وطريقته بعيداً عن التأطير بالمدارس، وأنا اشتغلت على طريقة بيكاسو، الفكرة بالتحرر من المدارس، وإيجاد خط منفرد خاص لي يصل إلى المتلقي”.

ومن ثم توقفتُ معه حول عنصر الكلب بلوحاته، فعقب: “الكلب يلازم الشخص بمفرده أو مع الأسرة في المجتمع الغربي، فأردتُ الإشارة إلى ثقافة الكلب غير الموجودة في مجتمعنا السوري، لكن من الممكن أن تنتشر هذه الثقافة، إذ لاحظت خلال وجودي بدمشق أن الكثير من الشباب والشابات لديهم كلب ويهتمّون به بتجولهم معه بالحدائق والشوارع، ويبدو أنه تمهيد واقعي، لذلك وثّقت بلوحاتي هذه الثقافة، لأن الفنان مرآة الواقع، ولوحة الكلب تقسم إلى قسمين: الأول شخص بمفرده، وفي الثاني يعيش الرجل مع الكلب، وتميّزت بتكنيك لوني قويّ جداً، فمن خلال تفاعلي مع اللوحة خلقتُ ألواناً جديدة بدقة عالية، في طبقات لونية مرئية متتالية، كله يأتي ضمن إطار الفن المعاصر الذي أشتغل به في ألمانيا”.

ولا يقتصر إبداع داود على الرسم واللون، إذ شُغف بالتراث الموسيقي الكردي وعبّر عنه بلوحاته، كما ارتبط بصداقات مع كبار موسيقيي القامشلي عازفي الطنبورة والبزق ما فتح المجال أمامه ليدخل الموسيقا إلى لوحاته، لكنها حاكت الموسيقا عامة، إذ اختار في بعضها آلات النفخ والقيثارة، وربما الألحان الجميلة كانت تسكن أعماقه منذ زمن، ففجرت لديه براكين الكلمات، وانسابت قصائد رائعة ليضيف الشعر إلى الرسم، ومن أجمل قصائده التي ترجمها عن اللغة الكردية الباحث إبراهيم محمود، قصيدة سواد عينيك:

حينما سواد عينيك غمرني

بموجاته

التأم جرح القلب

تبرعم السوسن في سمائي

وأينع مرتين.

ويغادر سيف داود الوطن، ليتابع معارضه في ألمانيا على أمل اللقاء المتجدّد بالإبداع، والجميل أنه دخل المجتمع الألماني، وقدّم العديد من المعارض بمدينتي “كولون” و”آخن” بشكل خاص، وترك بصمة الفنان السوري في المشهد التشكيلي العالمي ضمن تطور تجربته بمسار الفنّ المعاصر.