قلعة حلب.. عرض تاريخي ووقوف على واقع أعمال التّرميم
البعث- أسماء خيرو
“العمارة العسكرية والتحصينات الدفاعية في قلعة حلب” كان عنوان المحاضرة التي نظمتها الجمعية العلمية التاريخية السورية فرع حلب بالتعاون مع المركز الثقافي بالعزيزية.
وتأتي أهمية هذه المحاضرة التي أدارها الدكتور عصمت بوابه على مسرح ثقافي العزيزية من كونها تقلب صفحات التاريخ لإبراز الهوية الدفاعية والبراعة المعمارية لقلعة حلب، إذ بيّن مدير قلعة حلب سابقاً، الاستشاري في شركة “رحى للمدن القديمة” أحمد غريب أن قلعة حلب تعدّ الرقم واحد على مستوى العالم سعة وريادة معمارية، ليمرّ سريعاً على تاريخ مدينة حلب وحضورها في مشهد الممالك القديمة عندما كانت عاصمة لمملكة يمحاض العمورية من القرن التاسع عشر قبل الميلاد، مشيراً إلى أن قلعة حلب كان لها حضور حين خبا نجم مملكة ايبلا وبرز نجم يمحاض العمورية، وهذا الأمر مهمّ جداً حيث دلّ على مكانة حلب ليس فقط تجارياً باعتبارها بوابة عبور إلى الحضارات بل بتواصلها مع هذه الحضارات، فحلب حينما تذكر كعاصمة تجارية ليس لسورية فحسب، إنما لبلاد الشام بأكملها.
وأوضح غريب أن لحلب أيضاً أهمية من الناحية الاقتصادية، فهي مركز صناعة النسيج منذ الألف الثاني قبل الميلاد، بالإضافة إلى أنها قطب الرحى لطريق الحرير القادم من أقاصي الصين والهند، مروراً ببلاد خورسان ونينوى والموصل، وصولاً إلى حلب، وهذا الأمر أفرز حراكاً اقتصادياً وتجارياً انتعشت به مدينة حلب، بالإضافة إلى أن وجود الصفة الدينية لهذه المدينة باكتشاف معبد “حدد” في قلعة حلب أعطى الأهمية الدينية وساهم في بروز الطقوس الدينية التي كانت تمارس في مدينة حلب.
واستعرض غريب أكثر الأعمال التحصينية أهمية والتي قام بها الظاهر غازي والثورة العمرانية التي أحدثها في زمنه، عندما حوّل مدخل القلعة إلى الجهة الجنوبية وبنى البرج المتقدم والجسر الطويل المقنطر وواجهة الحصن العظيمة المؤلفة من قاعة الدفاع الصغرى والقاعة الكبرى بالإضافة إلى تدعيم سور القلعة وتكبير وتوسيع سور المدينة لتصبح قلعة حلب في وسط حلب القديمة وتمثل جزءاً من سور المدينة.
وأوضح غريب أن براعة العمارة العسكرية الأيوبية كان لها دور كبير في تسجيل حلب على قائمة التراث في اليونسكو، نظراً للأعمال التي قام بها الملك الظاهر غازي والتي أكملت في العهد المملوكي في القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، لافتاً إلى أنه في العهد العثماني أيضاً أضيفت الكثير من العناصر المعمارية كالبيوت والقصور وتوسعت المدينة باتجاه حي “الجديدة” إلى الشمال الغربي من المدينة، وهناك قصور ومبانٍ دينية وقفية جداً مهمة أعطت هوية لمدينة حلب العمرانية، مؤكداً أن النسيج العمراني الدفاعي مهمّ جداً، بدءاً من سور المدينة وأبواب المدينة التي لاتزال خمسة أبواب قائمة تحدّث الزائرين عن تاريخ هذه المدينة، وكانت هذه الأبواب دائماً بوجه العاصفة حينما كانت القلعة تستهدف من الغزاة.
وحول دور حلب الثقافي، بيّن غريب أنّه كان لحلب وهج ثقافي في زمن سيف الدولة الحمداني، حين كان بلاط سيف الدولة الحمداني يستقطب الكثير والعديد من الشعراء والقامات الأدبية المهمة، أمثال المتنبي الذي عاش عشر سنوات في حلب وأبو العلاء المعري وغيرهم الكثير.
تأثّرت قلعة حلب بعدد من العوامل التي أدّت إلى تدمير أركان كثير من العمائر، آخرها الزلزال الذي حدث السنة الماضية في عام 2023 وكانت نتائجه مدمره للأسف، وبسؤالنا عن المواقع التي تأثرت من الزلزال في القلعة أفاد بأن هناك أكثر موقع تأثر منها مدخل القلعة، لذلك أوقفت الزيارات نتيجة التصدعات، بالإضافة إلى عدد من الأبراج التي سقط جزء منها، ومدخل قاعة العرش الذي تعرّض لتصدعات، والطاحونة العثمانية التي تضرر جسم الصومعة فيها بنسبة 75 بالمائة، كذلك الثكنة العثمانية ومأذنة الجامع الأيوبي اللذان تأثرا جداً وتعرضا لخلع وتصدعات مع حدوث ميل للمأذنة بنسبة 30 بالمائة.
ويشرح غريب سبب تأثر قلعة حلب الكبير وتضررها الشديد من كارثة الزلزال قائلاً: “لا يوجد في القلعة تصريف للمياه في المسطح العلوي ومعظم مناطقها ترابية، لذلك حينما تهطل مياه الأمطار تتغلغل في أساسات الأبنية، والأبنية مشيّدة على جبل كلسي، هذا الجبل إذا هطلت عليه المياه سيتفتت، لذلك الظاهر غازي كان حذراً من الجهة الجنوبية للقلعة، وزفّت مدخل القلعة بحجارة ملساء لسببين، الأول: منع تآكل الجبل الكلسي بفعل المياه الموجودة في الخندق، والسبب الثاني: منع تسلق الغزاة على القلعة.
وبالحديث عمّا أُنجز من أعمال الترميم للقلعة، كشف غريب لـ”البعث” عن أن نسبة أعمال الترميم، إلى وقتنا الحالي، تصل إلى 50 بالمائة، إذ إنه بعد تحرير مدينة حلب في نهاية عام 2016 خضع قسم من مدخل القلعة للترميم بعد أن قدّمت منظمة اليونسكو الدعم المالي كما نُفّذ عدد من المشاريع، كترميم مسرح القلعة، وقيام “شركة الآغا خان” بتنفيذ مشروع ترميم عضادات الجسر المقنطر، كما نُفذ مشروع إسعافي لتدعيم زند القلعة وهذا مشروع مهم جداً، بدأت “شركة رحى للمدن القديمة” تنفيذه، لافتاً إلى أن أعمال الترميم مستمرة وهناك العديد من مشاريع الترميم لعدد من الأبراج والمواقع، وإجراء حقن للتصدعات في قاعة العرش لتكون المحصلة تعاون كلّ من “شركة الآغا خان” و”شركة رحى للمدن القديمة” و”الأمانة السورية للتنمية” للحفاظ على هذا الموروث الثقافي والصرح العظيم لمدينة حلب.
وختم غريب بالقول: “إنّ قلعة حلب قلعة مهمّة، وهي من أكبر قلاع العالم، وفي الحقيقة تشكل المشهد الحضاري لمدينة حلب، فأينما اتجه أهلها يرونها شامخة وتدلّ على العمق التاريخي والحضاري، واليوم، وعلى الرغم من كل ما تعرضت له ما تزال تحقق حضوراً لا يضاهيه حضور في المشهد الثقافي والحضاري لسورية وبلاد الشام، لقد كانت حصناً منيعاً قديماً، وأثبتت أنها حصن منيع في العصر الحديث بدحر الإرهاب على يد بواسل الجيش العربي السوري الذين قدموا التضحيات الكثيرة والشهداء في دفاعهم المستميت عن هذه القلعة.