أربعائيات.. خطاب الرئيس الأسد بين المعرفي والسياسي!
مهدي دخل الله
لعلّ الرئيس الأسد، الرئيس العربي الوحيد، وربما على مستوى العالم، الذي يركز في خطابه كله، منذ عام 2000، على النقد البنيوي للواقع المعطى ولأداء الإنسان فيه. إنه خطاب لا يضيع، كغيره، في “ديماغوجية الإنجازات”، وإنما يركز على مكان الخلل والقصور باحثاً، وفق نهج تحليلي معرفي، عن إمكانية تجاوز هذا المكان.
وقد أكد الرئيس الأسد، في خطابه الأخير في مجلس الشعب، التزامه التام بهذا النهج الجدلي الناقد الذي ما فتئ يستخدمه منذ خطاب القسم الأول الشهير عام 2000. المشكلة أن الرأي العام غالباً ما يهتمّ بالمضمون السياسي في خطاب الرؤساء، متجاهلاً البعد المعرفي. ربما يكون مردّ ذلك إلى الحضور الطاغي للقضايا السياسية في واقعنا اليوم.
من أكبر مخاطر البقاء عند “السياسي” دون تخطيه إلى “المعرفي” أمران: الأول، الضياع في الظاهراتية وفي التفاصيل، والثاني الفهم السطحي للطروحات السياسية وعدم اكتشاف مرجعيتها الفكرية. عبر هذا الفهم تتحوّل السياسة إلى مجرد إطار تعبوي شعاراتي، دون الوصول إلى النواحي اليقينية التي تعطي الموقف السياسي القدرة على الجدل والحوار بين الخيارات.
إن الفهم الحقيقي للمقولات (التي هي معنى الجوهر عند ابن خلدون)، وللمواقف السياسية، يتطلب ردّها إلى مرجعيتها المعرفية. هذا الردّ يتطلب نهجاً مركباً يستند إلى جانبين: الأول جانب معرفي، والثاني تطويري (أي عملي).
ومن خطاب القسم الأول، عام ألفين، ظهر واضحاً هذا النهج المعرفي النقدي في ثقافة الرئيس الأسد السياسية. قالها الرئيس صراحةً في مجلس الشعب، عام 2001، بأنه لم يكن يطرح برنامجاً سياسياً، وإنما حاول إظهار نهج تفكيره والأسلوب الذي يرى عبره الأمور.
ومن المعروف أن الثقافة طريقة تفكير + طريقة حياة. ولقد عرض سيادته ملامح نهجه، أي طريقة تفكيره وثقافته السياسية، في خطابات ولقاءات إعلامية متعدّدة. كان دائماً يؤكد أنه من الضروري تخطي الظاهر والتفصيل لاستكشاف الجوهر الذي تقوم على أساسه الظواهر. هذا الاستكشاف يفسّر سبب نشوء الجوهر، ويوصل بالتالي إلى طريقة التعامل مع الوقائع، ويقي السياسة من الوقوع في مطبات الفوضى والضياع.