تلتهم الأخضر واليابس.. إلى متى الإهمال والتقصير في مكافحة الحرائق؟!
علي عبود
تُسهب مديريات الزراعة بتعداد أسباب اندلاع الحرائق، وبتحديد الفترة الأكثر خطورة (أيلول وتشرين) بانتشارها بفعل “هبوب الرياح الشرقية الجافة مع درجات الحرارة المرتفعة والرطوبة الجوية المنخفضة جداً.. إلخ”، لكنها تتجنّب دائماً الحديث عن الآليات المتاحة للسيطرة على الحرائق فور وقوعها لمنع انتشارها إلى مناطق مجاورة وواسعة.
وتكتفي مديريات الحراج بالحديث عن “رفع الجهوزية للحدّ الأقصى وتجهيز الفرق والإطفائيات بكل المستلزمات بهدف التقليل من احتمالية الحرائق الكبيرة والسيطرة عليها منذ بداية اندلاعها للحدّ من خطورتها بشكل عام”، ويوحي هذا الكلام المتجدّد في كلّ عام مع بداية موسم الحرائق، وكأنّ أفواج الإطفاء مزوّدة بما يكفي من سيارات وقريبة جداً من مناطق الغابات، وبأن الطرق الزراعية والحراجية والنارية تغطي الحراج بما يسمح لها بالمباشرة بأعمال إخماد النيران بالمياه والآليات المناسبة.. إلخ.
غياب الطرق الزراعية
من المهمّ دعوة دوائر الحراج سكان المجتمع المحلي، وخاصة القاطنين قرب الغابات للاتصال برقم مجاني بغرفة عمليات مديريات الزراعة، لكن الأكثر أهمية أن تقوم مديريات الزراعة والحراج بتسيير دوريات على مدار الساعة في الغابات والحراج الأكثر عرضة للحرائق، وبشق طرق كافية في المناطق الوعرة وبتأمين مصادر مياه قرب الغابات.. إلخ.
والسؤال: لماذا لا تزرع مديريات الحراج كاميرات وسط الغابات لاكتشاف الحرائق فور اندلاعها، أو كشف المسبّبين بها لمصالح شخصية أو تجارية؟.
وبما أن مديريات الزراعة والحراج مؤمنة بفكرة “درهم وقاية خير من قنطار علاج”، فحبذا لو تعمّم مجموعة التدابير الوقائية بهدف تقليل عدد الحرائق وتقليص مساحاتها عبر وسائل الإعلام، وقطعاً فإن النصائح العامة كدعوة المتنزهين إلى الحذر من رمي المخلفات القابلة للاشتعال لا تكفي، فالإجراء الوقائي الفعّال يكون بإقامة مناطق مخصّصة للمتنزهين مزودة بالحدّ الأدنى من المرافق العامة، وهذه المتنزهات من مسؤوليات وزارات البيئة والسياحة والإدارة المحلية.
لا آليات فعالة للمكافحة
وإذا كان لا يمكن فعلاً – حسب مديريات الحراج – شقّ طرق وسط الغابات التي تقع على انحدارات شديدة وطبيعة صخرية قاسية، فهل الطريقة الفعّالة لإخماد الحرائق فيها هي الأدوات اليدوية “مناجل- مناشير آلية- مطافئ ظهرية” أم استخدام طائرات مخصّصة لإطفاء الحرائق؟.
والسؤال الأكثر أهمية الذي يؤكد على فكرة “درهم الوقاية”: هل تنفّذ مديريات الزراعة والحراج آليات تمنع انتشار الحرائق إلى الغابات الواقعة على الانحدارات والصخور القاسية والتي يصعب شقّ الطرق فيها؟
لقد ثبت أن تشكيل لجان على مستوى الوحدات الإدارية تضمّ مديري النواحي والبلديات والمخاتير والروابط الفلاحية ورؤساء المخافر الحراجية، لمراقبة كل الأراضي ومنع أي شخص من إشعال النيران وتحفيز الأهالي لمساعدة طواقم الإطفاء.. إلخ غير فعالة طالما الآليات المطلوبة لمكافحة الحرائق لا تزال دون الحدّ الأدنى، بل بعضها غائب كلياً كمحطات الإنذار المبكر والكاميرات والمسيرات.. إلخ.
تعويض هزيل لحراس الحراج
تصوّروا أن عدد حراس الحراج في اللاذقية 22 حارساً فقط، بما لا يتناسب مع مساحة المواقع الحراجية، لكنه يفيض عن الحاجة لو كانوا يقيمون في أبراج مراقبة موزعة في الحراج.
ونشير إلى أن طبيعة عمل حراس الحراج شاقة ومجهدة، إذ تقع على عاتقهم مهمّة حماية الغابات والمساحات الحراجية والمتنزهات والمحافظة عليها، وكذلك تنظيف جوانب الطرقات الحراجية في الشوارع، والعمل على خطوط النار، وتقليم الأشجار، وتنفيذ مختلف عمليات التربية والتنمية في المواقع الحراجية المختلفة، كما يقومون بترحيل كلّ مخلفات عمليات التقليم والخدمة في المواقع الحراجية، وتزداد مهمّتهم خطورة ومشقة في حال حدوث حريق في الغابة، حيث يتولّون مهمة الإطفاء، وكلّ هذه المهام مقابل تعويض طبيعة عمل بنسبة 50% من الراتب المقطوع!
توجيهات لم تنفذ!
وتشير تصريحات أغلب المعنيين بإدارة الحرائق إلى أنه من الضروري شقّ ما يكفي من الطرق الحراجية ومصدات الحرائق “خطوط النار” لتسهيل وصول فرق وآليات الإطفاء بالسرعة الكلية للمواقع المحروقة، والحدّ من تقدم النيران منخفضة الشدة، وأكد بعضهم في الشهر الماضي “لم نقم بشق ما يكفي من طرق وخطوط نار لوصول فرق وآليات الإطفاء بالسرعة الكلية للمواقع المحروقة”.
مثلاً، وجّه مجلس الوزراء بعد حريق مشقيتا المدمر عام 2023 بفترة وجيزة بشق طرق وخطوط نار في الغابات السورية بما يضمن تسهيل وصول وعمل فرق الإطفاء في المستقبل إلى بؤر الحرائق، ولكن لم يتمّ تنفيذ توجيهات مجلس الوزراء التي مضى عليها أكثر من عام حتى الآن؟.
والأكثر خطورة غياب أعمال ترميم وتنظيف الطرق الحراجية وخطوط النار بشكل دوري للإبقاء على جاهزيتها لحين الحاجة، ففي محافظة اللاذقية، المعقل الأهم للغابات السورية، فإن الخطة السنوية لترميم وتنظيف الطرق الحراجية وخطوط النار هي بحدود ألفي كيلومتر لم يُنفذ منها سوى 25% والذريعة “عدم توفر الإمكانيات”!!
ماذا نستنتج من ذلك؟
الحكومة غير مهتمة بشقّ طرق نارية وحراجية جديدة، ولا بترميم المتوفر منها، ولا تمنح الحراس الأجور الكافية، ولا تزود فرق الإطفاء بمستلزمات إخماد الحرائق.
وبما أن أغلبية الحرائق تبدأ سطحية ثم تتحوّل إلى تاجية فإن “درهم الوقاية” يبدأ بتقليم وتفريد للغابات الكثيفة “أعمال تربية وتنمية” وتنظيف أرض الغابة لمسافة معينة من الطرق العامة، فهل تتيح إمكانيات مديريات الزراعة تنفيذ “درهم وقاية خير من قنطار علاج”؟.
أستاذ البيئة وحماية الغابات- قسم الحراج والبيئة في جامعة تشرين الدكتور محمود علي يعطي مثالاً على هزالة الإمكانيات، فالخطة السنوية لأعمال التربية والتنمية في محافظة اللاذقية هي ألف هكتار فقط من إجمالي المساحة البالغة 60 ألف هكتار، وهذا يعني إذا تمّت أعمال التربية والتنمية لموقع معين في عام 2024 فإن دوره القادم سيكون في عام 2084!!
الماعز يمنع اندلاع الحرائق!!
ولو خصّصت الموارد التي استخدمت لمكافحة الحرائق لتنفيذ الإجراءات الوقائية المناسبة وإجراءات المراقبة، لكانت جعلت من هذه الغابات “جناناً حصينة” إلى حدّ كبير ضد النيران والاعتداءات المختلفة.
ويطرح بعض الخبراء فكرة الاستعانة برؤوس من الماعز، للاستفادة من شهيتها في رعي الأعشاب لتخليص أراضي الغابات من أي نباتات قد تتحول بعد جفافها إلى شرارة خطيرة لاشتعال النيران، وبالتالي التهامها للغابات والحراج الطبيعية.
صحيح أن بعض الغابات تقع في أراضٍ وعرة، قد يستحيل أو يصعب وصول رجال الإطفاء أو الآليات إليها في حال اشتعال الحرائق بها نظراً لطبيعتها الجغرافية. ولكن اللجوء إلى فكرة الماعز يعدّ حلاً استباقياً مانعاً لحدوث تلك الحرائق، وربما ينشئ الماعز بعد رعيه للأعشاب مناطق عازلة بين المساحات الحراجية والمنازل القريبة، ما يتيح للإطفائيين التدخل في بيئة آمنة عند حدوث الحرائق.
الخلاصة.. لا تتذكر الجهات المعنية أهمية توفير المستلزمات الضرورية لفرق الإطفاء إلا بعد اندلاع الحرائق، وهي تكرّر تصريحاتها بأنها وضعت الخطط اللازمة لمكافحتها في الوقت لمناسب، لنكتشف سريعاً أننا خسرنا مساحات واسعة من حراجنا وغاباتنا، ولنكرر السؤال عاماً بعد عام: إلى متى يستمر هذا الإهمال والتقصير في تأمين مستلزمات مكافحة الحرائق؟!