ثقافةصحيفة البعث

زيناتي قدسية.. رائد المونودراما في العالم العربي

أمينة عباس

رسّخ اسمه في المونودراما خاصة والحركة المسرحيّة عامة ممثّلاً ومخرجاً وكاتباً، وكان وما يزال استثناءً يُحتذى به في المسرح العربي والسوري بشكل عام، وفي فن المونودراما بشكل خاص، ليؤكد لنا عبر مسيرته الطويلة أن المونودراما التي انحاز إليها بشدة لم تكن بالنسبة إليه في يوم من الأيام حباً عابراً، بل كانت تتويجاً لأعمال مسرحية تميّز فيها بأدائه المتفرد، يقول زيناتي قدسية: “عندما قدّمتُ أول مونودراما في عام 1985 كنتُ قد تجاوزتُ مرحلة كبيرة من العمل في المسرح وبأدوار أساسيّة، لذلك عندما اتّجهتُ إليها لم يكن الهدف الاستعراض وتحقيق الشهرة، فالمونودراما لم تأتِ من باب الترف الفنّي، إنّما كانت بحكم الضرورة والظروف السياسيّة والاقتصاديّة التي كنّا نعيشها في فترة الثمانينيات”.

وعن بداية رحلته مع فن المونودراما يحدّثنا: “كنتُ مرشحاً في أحد المهرجانات العربية لجائزة أفضل ممثل دور أول، ولاعتبارات معينة حُجِبَت الجائزة عنّي، وكان الكاتب ممدوح عدوان أحد أعضاء لجنة التحكيم فيها، ونتيجة لهذا الغبن أهداني في عام 1984 نص مونودراما “حال الدنيا”، فتشاركنا معاً في ولادته على الخشبة، وشكّلنا قواعد أولية لبناء نص يقوم به ممثل واحد، ونحن لا نعلم ما إذا كان هناك مراجع ونظريات في تاريخ المسرح نستند إليها في تصنيع المونودراما، وكلّ ما في الأمر أن عدوان حسب معلوماتي قرأ نصوصاً غربية وعربية مونودرامية، وشاهد عروضاً قليلة العدد من دون أن يكون مفتوناً بما قرأ وشاهد، فأراد تقديم رؤية وموقفاً اجتماعياً جمالياً من خلال نص ينتمي إلى ما يسمّى بالمونودراما، معتمداً على خبرته وتجربته المسرحية الطويلة، فكانت “حال الدنيا” أول عرض مونودراما سُجل بجدارة الريادة لهذا النوع المسرحي في العالم العربي حين رأى النور في ليلة الرابع عشر من أيلول عام ١٩٨٥ على خشبة مسرح القباني بدمشق”.

أثمرت شراكة قدسية مع ممدوح عدوان أربع مسرحيات مونودرامية هي “حال الدنيا”، و”القيامة”، و”الزبال”، و”أكلة لحوم البشر”، لذلك تنبع أهمية تجربتهما وقيمتها من استمرارها، يقول قدسية: “قبل رحيله كان يكتب لي مونودراما بعنوان “الشيطان” لكنه رحل قبل إكمالها، والأعمال الأربعة التي أنجزناها في إطار المونودراما هي الأساسات المتينة والمداميك القوية التي نهض عليها بناء مشروع المونودراما الذي ما يزال قيد الإنجاز”.

استغنى قدسية في أعماله المونودرامية عبر مسيرته التي ما تزال مستمرة حتى الآن عن المخرج ليقوم هو بهذه المهمة، ويعلل ذلك بالقول: “بعد أن عملت كممثل تحت إدارة مخرجين أحمل لهم كامل التقدير والاحترام، كان لي الحق في التحرر من سطوتهم قليلاً، والمونودراما هي الفسحة المتاحة التي تشعرني بهذا النوع من التحرر، وهو تحرر فكري جمالي بطبيعته، وطالما أنني قادر على إدارة مشروعي بكفاءات عالية تمثلتْ في من وقفوا إلى جانبي في هذا المشروع فما الذي يضطرني إلى صيغة أخرى؟ ولو افترضنا جدلاً أنني تعاونتُ مع مخرج أو مخرجين عدة على مدى هذه التجربة فهل كان المشروع سيبقى مشروعي؟ أما المواصفات الواجب توافرها عند ممثل العرض المونودرامي فهي تعتمد على الممثل المبدع والمقتدر، وإذا لم يتوافر الممثل الذي يتمتّع بهذه المواصفات فلتذهب المونودراما إلى الجحيم، وما أريد تأكيده هو أن هذا الفن مغرٍ للممثل والكاتب والمخرج، والإغراء هذا إما أن يبتلع هؤلاء أو يمتلكهم، ولن يمتلكهم إلا إذا كانوا ذوي موهبة إبداعية ومسلحين بالوعي التاريخي والثقافة العالية والخبرة العملية الناجحة، أما أنصاف الموهوبين منهم فيقدمون تجربة يتيمة أو تجربتين ثم سرعان ما يسقطون”.

ولا يتفق قدسية مع القائلين إن المونودراما خرجت من عباءة الحكواتي، ويرى أن الممثل في المونودراما يتحول إلى مجرد حكواتي في حالة واحدة “هي حين يدّعي المؤلف أنه يكتب مونودراما من دون أن يدري أنه متلفع بعباءة الحكواتي، وحين لا يكون المخرج والممثل على دراية بما يفعلان يسقط مفهوم المونودراما حتماً، وأرجو ألّا يُفهم من كلامي أنني أقلل من أهمية الحكواتي، بل على العكس، هو قالب كانت له عظمته وجماله وسطوته”.

ويؤمن قدسية السوري- الفلسطيني بأنه “من واجب كل فنان أن يعكس عبر الفن كل الأحداث ويذكّر شعبه بها ويفتح نوافذ الوعي أمام كل الأجيال التي لم تعاصر القضية الفلسطينية”، لذلك لم تغب القضية عن أعماله المونودرامية، وخاصة في السنوات الأخيرة، إذ قدّم كاتباً ومخرجاً وممثلاً في العام 2011 مونودراما “أبو شنار” سارداً فيها بعضاً من حكايات الداخل الفلسطيني، كما قدم في عام 2022 مونودراما “القيامة 2″، بعد مرور ستة وثلاثين عاماً على تقديمه “القيامة” بالتعاون مع ممدوح عدوان من وحي الثورة الفلسطينية وتزامناً مع فعاليات إحياء ذكرى نكبة فلسطين 1948 قدم “القيامة 2” وفيها تناول قصة فنان مسرحي هجّر من بلده الأم فلسطين إلى سورية، واضطر خلال سنوات الحرب على سورية إلى الهجرة مرة أخرى، ويقف العمل مطولاً أمام مأساة مغادرة الإنسان قسرياً لوطنه وإجباره على الخروج من منزله ومعاناته صعوبة العيش وضيق الحال، بالإضافة إلى تداعيات الحرب وآثارها السلبية على الأفراد والشعوب: “أردتُ المشاركة في إحياء ذكرى النكبة التي تولدت عنها نكبات عدة عاشتها منطقتنا العربية، والرسالة التي حاولت المسرحية إيصالها للجمهور والتي تنبع من رمزية رفع الصوت من سورية لنحيي ذكرى النكبة في ظل هذا الواقع العجيب، فالعالم كله يترقب فلسطين وصمودها وما يحصل فيها”، وفي عام 2023 قدم مونودراما “الجزماوي” وهو رمز يتناول مراحل النضال الفلسطيني، وصولاً إلى الحفاظ على القضية من خلال الأبطال والرموز، وفي الشهر السابع من العام الحالي قدم “أيوب” التي يحكي فيها عن بطولات الشعب الفلسطيني وعن أشخاص عاديين غير معروفين، يوثق بطولاتهم عبر الذاكرة الشعبية التي يجسدها الحكّاء أيوب لتظل باقية وراسخة في الذاكرة الشعبية، يقول قدسية: “من لا ذاكرة له لا تاريخ له ولا وطن، وإذا لم يؤدّ الفن هذه الرسالة فإنه لن يصل إلى الهدف، ولا وقع له”.

يُذكر أن الفنان زيناتي قدسية مولود في قرية إجزم في حيفا، وانتقل إلى دمشق عام 1971 وبدأ تجربته في المسرح الجامعي ومسرح الهواة، وكان معاصراً لتجربة سعد الله ونوس مع المخرج فواز الساجر، وقدّم مع الأخير أعمالاً مسرحية عدة منذ عام 1977، بعد ذلك أسس فرقة “أحوال” التي قدم فيها أعمالاً مونودرامية حملت توقيع الكاتب ممدوح عدوان، وتابع مسيرته في المونودراما ليقدم كاتباً ومخرجاً وممثلاً العديد من الأعمال نذكر منها: “غوايات البهاء”، و”كأس سقراط الأخير”، و”غاندي”، و”الجلجلة”.