هل المونودراما رسالة إنسانية جماعية أم تظاهرات عبثية؟
غالية خوجة
من المعروف أن “المونودراما” فنّ مسرحي بطله الممثل الواحد “مونو” باليونانية الواحد، وأضيفت إليها “دراما”، واشتهر اليونانيون والإغريقيون والشعوب القديمة بمثل هذه العروض، لكونها كانت تؤدّى في الطقوس التعبدية والموسمية والمناسبات، ويعدّ التاريخ “ثيسبيس” أول ممثل نقل السرد إلى حركية التمثيل، ومن اسمه اشتق مصطلح “ممثل ـThespian” و”مسرح ـTheater”، والمونودراما بالألمانية “سولو بلاي ـ Soloplay”، وبالإنكليزية “وان مان شو ـ One Man Show”، وترجع ذاكرة هذا الشكل المسرحي إلى الكاتب الممثل الألماني “جوهان كريستيانابراندز”، لكن أول نص مسرحي مونودرامي مكتمل هو “بجماليون” ويعود إلى الكاتب الفيلسوف “جان جاك روسو”.
بعد ذلك بدأت الحركة المسرحية في العالم تنشط مع هذا الشكل، ونذكر “تشيخوف” ونصه “مضار التبغ”، و”جان كوكتو” و”الصوت الإنساني”، و”يوجين أونيل” و”قبل الإفطار”، و”صموئيل بيكيت” و”شريط كراب الأخير”، الذي عدّ المونودراما نوعاً من العزلة الفردية، ما يعني أنه أدرك باكراً، على الرغم من العبثية، أن التواصل الاجتماعي سيفقد حضوره الواقعي ويجعل العزلة الفردية محوراً مونودرامياً لكلّ شخص في هذه الحياة، لكنني أقول: المونودراما ليست فناً للعزلة.
ومع ازدهار علم النفس الذي برع فيه كل من “سيغموند فريد” و”كارل غوستاف يونغ”، اتخذت المونودراما حالات تأسيسية جديدة، تبعتها كلية الباتافيزيقية القائمة على فلسفة لا تعرف إلاّ نفسها، معدّة أن كل ظاهرة قائمة بذاتها ولها قوانينها وتجمع المنطق والعبث في آنٍ معاً، وتوالت مع الزمن الحركات والمذاهب وبدأت المونودراما تتطور بين “الصولوهات” و”المونولوغات” ولم تتهيكل إلاّ في النصف الثاني من القرن العشرين في أوروبا.
وكان أن انطلقت المونودراما في الوطن العربي، أيضاً، وغلبت عليها نصوص التراث ولاسيما الشعبي، أو النصوص المترجمة، بالإضافة إلى محاولات من أجل الخروج عن النص إلى نصوص جديدة، ففي العراق قدّم يوسف العاني مسرحية “مجنون يتحدى القدر” 1950، وفي الإمارات جاءت مسرحية “لحظات منسية”عام 1989، للفنان حبيب غلوم وتمثيل سميرة أحمد، بينما في سورية، تأسس المسرح القومي عام 1960، وحضر المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1977.
وبدأت المونودرامات مع مسرحية “يوميات مجنون” نص “نيقولاي غوغول”، إعداد سعد الله ونوس وفواز الساجر، وتمثيل أسعد فضة، وتحولت إلى ظاهرة في الثمانينيات والتسعينيات ولاسيما مع فنان المونودراما زيناتي قدسية، ومؤسسها نصاً جديداً ممدوح عدوان.
ثم لمعت أسماء كثيرة عبر الأجيال بين كتّاب وممثلين ومخرجين ونقاد، نذكر منهم، تمثيلاً لا حصراً، كلاً من مها الصالح، ود. نبيل حفار، وفرحان بلبل، عمر حجو، والدكتور عجاج سليم، ووليد إخلاصي، وعبد الفتاح قلعه جي، وعبد الرحمن أبو القاسم، وجهاد سعد، ومؤنس حامد، وجوان جان، ونمر سلمون، وفايز قزق.
أيضاً، تنوّعت مهرجانات المونودراما في العالم العربي، منها مهرجان المونودراما المسرحي السوري، وتظاهرة المسرح المونودرامي، ومهرجان “مسرحيد” وهو مشتق من كلمتين: مسرح، وحيد، أطلقه عام 1992 الفنان الفلسطيني أسامة مصري في حيفا، “الفجيرة الدولي للمونودراما” الذي يقام منذ عام 2012، ومهرجانات أخرى في المدن العربية منها جرش، والقاهرة، وقرطاج، وغيرها، والملفت أن مونودراما الدمى أو العرائس انضمّت إلى هذا الشكل الفني، بالإضافة إلى اهتمام الجيل الشاب العربي، خصوصاً، الشباب السوري، ولاسيما بعد الحرب، وأصبح في غالبية المحافظات السورية مهرجانات للمونودراما الشبابية، والهواة، والشبيبة، تقيمها الجهات المعنية الحكومية بالإضافة إلى الجهات الخاصة.
ومن أهم خصائص هذا الفن أنه مسرح الشخصية، لكنه رسالة جماعية، ومشروع إبداعي مستدام، لذلك، لا بدّ من امتلاك الممثل القدرة على إقناع الجمهور بما يسرده ويرويه ويحكيه عبر أزمنة الماضي والحاضر غالباً، مع التوشية بالأحلام والآمال والمستقبل، وما تتداعى به مجريات شعوره، وحيوية وعيه ولا وعيه، بأسلوب متحرك بين التراجيديا والكوميديا، ضمن شبكة من الصراع النفسي بينه وذاته، أو بينه والآخر، أو بينه والطبيعة الاجتماعية والبيئية، ومن الممكن الخروج عن التقليدية والكلاسيكية بوسائل أخرى، منها إدخال الحضور وإشراكهم في العمل، واستخراج التداعيات المناسبة، وتطوير الحدث، واللعب على الفضاء الزمكاني، والنهايات المفتوحة غالباً، والمعالجة الفنية للقطع والوصل كعملية هارمونية، ولربما كان النص ملحمياً، أو شعرياً، أو نثرياً، أو واقعياً، أو رومانسياً، أو سوريالياً، أو إشارياً، أو فلسفياً، أو مشابكاً لكل ذلك، لكن جاذبية التوصيل الفني متوقفة على الممثل الواحد أو الوحيد الذي يؤدي هذا العمل المسرحي، مستحضراً العديد من الأصوات والضمائر المتناسبة مع الثيمة الموضوعية للعمل، وغالباً، ما تكون ذاتية اجتماعية، وإنسانية، ونفسية، ووجدانية، وفكرية، ووطنية، وسياسية، وفلسفية، ونقدية، وساخرة، بإخراج جمالي، ونص مسرحي نوعي، وسينوغرافيا متناغمة.
بذلك، يتبيّن أن المونودراما ليست مونولوغاً فقط، لأنها تجمع شخصيات عدة، تجادلها، وتحاورها، وتكاشفها بين المونولوغ والديالوغ بشكل أحادي، أو ثنائي، أي يمزج بين شكلَي الحوار الداخلي والخارجي، وتتمحور حول الصراع وليس بالضرورة أن يكون مأساوياً حزيناً، بل، المهارة الفنية أن يأتي الصراع ناقداً، وساخراً، وكاشفاً، ومناقشاً، ومحتداً، وإيمائياً، وتراجيكوميدياً، وأن تكون طبقات الصوت ونبراتها وصمتها متناغمة لا صارخة، وأن تعكس الأفكار بمنطوق مختزل وكثيف، متحايث مع لغة الجسد والملامح الظاهرية للجسد، والملامح الباطنية للنفس وتعابيرها الروحية والقلبية والوجدانية.
وليس، بالضرورة، أن تكون المونودراما دائرية، أي أن تبدأ وتنتهي من النقطة ذاتها، ومن الممكن إبداع المتغيرات تجريبياً بمنهجية فنية، ومهارة لا تتكرّر، حتى في عروض العمل ذاته المتكررة زمانياً ومكانياً، فالممثل المبدع لايكرر ذاته حتى في العمل ذاته، بل، يبدع المناسب مع كل عرض لهذا العمل، مع ما يناسبه من مؤثرات أخرى مثل الموسيقا، والضوء، والظلال، والديكور، والأزياء، ولا بدّ من إخراج هادف وممنهج ومتطور، وكل ذلك أساسه فكرة العمل، أي البناء النصي، ومدى إبداعه لحياة أخرى على المسرح منطلقاً من الحياة حتى لو كان يتحدث عن الموت، بمعنى أن يكون النص مثقفاً وعارفاً وجديداً إنسانياً محلياً وعربياً وعالمياً، وبذلك يكون ملامساً لكل إنسان في كل مكان وعبْر الزمان، ومن خلال هذه المحلية الكونية، يمتلك مضاداً حيوياً ضد الخمود والخمول والتراجع، بل يمتلك استبصاراً مستقبلياً.
إذن، النص أساس أي عمل، لأن الكلمة وأفكارها وأحلامها هي المحور الأساس الذي ستنبني عليه المحاور والعناصر والعوالم الأخرى، فإذا كان النص مبدعاً، سيقود المحاور الأخرى شريطة ألّا تقلّ عنه إبداعاً، خصوصاً، شخصية الممثل المونودرامي التي لا تجعله أنانياً بقدر ما تجعله يقدم رسالة مشعّة من خلال كلمة العرض المتفرعة من كلمة النص، وهذا ما يؤيده الجميع، ومنهم الناقد جوان جان رئيس تحرير مجلة “الحياة المسرحية” القائل في أحد حواراته: “أدرك المسرحيون العرب تحديداً أن الكلمة هي الأبقى في المسرح لا نصاً فحسب، بل وعرضاً أيضاً، لأنه مهما بلغت براعة المخرج وخبرة الممثل ومهارة الفني وجمال الديكور وسحر الموسيقا تبقى الفكرة هي الأساس وهي العنصر الأكثر تأثيراً وديمومة في العمل المسرحي”.
إذن، للكلمة دورها المحوري بين النص والعرض، وتكملها، بلا شك، كلمة العناصر المسرحية الأخرى، وهذا ما نتمنى أن نراه مميزاً في العروض المسرحية عموماً، والمونودراما خصوصاً، وعلى الرغم من أن الحيوية عادت إلى المشهد الثقافي الفني السوري بعد الحرب والزلزال، لكن غالبيتها لا تنبني على الزخم السابق الذي شكّل علامات إبداعية، ولا تنطلق بإبداعية لتساهم في الحياة، وغالباً، ما نرى العروض المسرحية عبارة عن محاولات، وتجريب، ونقل الواقع المؤلم إلى الخشبة من فقد واغتراب وهجرة وتمسك بالوطن، وهذا جميل، لكن، أين الأساليب الإبداعية في صياغة كيفية هذا النقل لواقع لا نريد أن نعيشه بواقعيته على الأقل مرتين، وأين الخبرات الإبداعية؟ ولماذا لا يبدع الجيل الشاب أفضل من الإمكان؟ وماذا اكتشف مسرح الطفل المدرسي والشبيبي للمستقبل؟ وهل المخضرمون يثقّفون هذه الفئات العمرية بالمعارف والمسرح، وبعد ذلك، يشرفون ويدربون ويكتشفون المواهب لتنميتها وتطويرها؟ أين الفضاء الجاد للاهتمام بالمسرح كمحور إبداعي للتغيير التربوي والاجتماعي والإنساني أيضاً، لا للوقوف، كما يفعل البعض، على الحافة التهريجية التجارية بألفاظها وحركاتها غير المقبولة إطلاقاً، إضافة إلى الأغاني الهابطة؟! لماذا لا تكون لكل عرض موسيقا تأليفية خاصة به، وأغان وأناشيد تؤلّف له بشكل خاص؟.
إنّ الظروف المحيطة بدواخلنا ومجتمعنا ضاغطة بلا شك، لكن مسرح المونودراما لا يحتاج إلى تكلفة باهظة، لأن التكلفة بحدّ ذاتها لا تنتج مسرحاً سواء مونودرامياً أو غيره، بل المسرح بحاجة إلى مشروع مسرحي، وعقول إبداعية، وفرق عمل موقنة برسالتها وأهدافها وما تتركه من أثر قابل للتأصيل والتطوير، وإلى إدارات تثق بمشروعها الحاضر والمستقبل الذي لا ينسف ذاكرة المؤسسين، ويستفيد من الأعمال الأدبية السورية القيّمة، سواء أكانت نصوصاً مسرحية أم شعراً أم قصصاً أم روايات، ومن الممكن الاستفادة من إصدارات اتحاد الكتّاب العرب ووزارة الثقافة في هذا المجال، ما يجعل هذا الفضاء التشابكي للعوامل والمحاور والعناصر التي ذكرتها فضاء متداخلاً بفنية إيجابية أيضاً.