ثقافةصحيفة البعث

المونودراما.. مستقبل مرهون بالتجارب والدعم المادي

رفعت الديك

يعدّ المسرح مرآة للحياة، بما يتيحه من حوار ومساءلة تعكس قلق الذات الإنسانية وشغفها وطموحها عبر الصراع الدرامي بين الشخصيات، لكن تطور النصوص المسرحية المتتالي انتقل إلى صراع الذات مع دواخلها النفسية، جسّدته المونودراما باعتبارها خطاباً مستمراً من قبل شخص واحد، فهي عمل فني مسرحي كُتب ليؤديه شخص واحد، وعلى الغالب يقوم هذا الشخص بكل جوانب العرض من كتابة وتمثيل وإخراج، لأن الممثل الوحيد يحاور ذاتاً مختبئة فيه وما يستلزمه الأمر من صوت وحركة وحوار، كما أنها تفرض توافر لياقة بدنية عالية، وقد يتطلّب الأمر الرقص والقفز وتقليد الحركات، وهو يقترب بالمفهوم من المونولوج الدرامي، وهو خطاب موجّه من شخصية إلى أخرى، إذ تتوجّه الشخصية مباشرة إلى الجمهور لتقول أفكارها بصوتٍ عالٍ، وتتميّز بقدرة على الإلقاء والتلاعب بالصوت بين خفوت النبرة وعلوها، وهي المسؤولة عن إيصال رسالة العمل، ولكن ما هي منعكسات هذه الظاهرة على خصائص المسرح وعوامل نجاحه وما هي التطلعات المستقبلية له.

الفنان معن دويعر الذي فضّل عدم الدخول في التفاصيل التي تخصّ ظهور مسرح المونودراما ونشأته من بدايات القرن العشرين وإلى ما هنالك من المعلومات التاريخية، قدّم وجهة نظره مباشرة في مسرح المونودراما والذي يعدّ شكلاً من أشكال المسرح التجريبي، وهو مسرح إشكالي بجوهره يحمل في خفاياه نزعة فردية تتناقض مع الجوهر الأساس للمسرح بشكله الجماعي والذي يستند إلى تظافر مجموعة من المبدعين كلّ في اختصاصه لتقديم عمل مسرحي يحترم الذائقة ويرتقي لما يصبو إليه الجمهور الذي هو شريك في إنجاز العرض وهو غاية العرض المسرحي، ونتفق جميعاً على أن المسرح هو فن الممثل أولاً، ولا يجوز هنا أن نفهم أنه فن الممثل الذي يستولي على الخشبة لاستعراض أدواته الفنية والإبداعية على حساب العرض، أو ما ينتظره الجمهور من المتعة والفائدة والإدهاش الجمالي التي تتكاتف كلّ عناصر العرض لتحقيقها.

ويضيف دويعر أن هناك تجارب لعروض مونودراما مهمّة وناجحة، لكنها قليلة، بالنسبة إلى الكمّ الكبير من المهرجانات المخصّصة للمونودراما التي لم تستطع من وجهة نظره أن تكرّس حالة مسرحية مؤثرة ولا أن تكون قاعدة جماهيرية تحبّذ هذا الشكل المسرحي، قياساً للعروض المسرحية التي يؤديها فريق من الممثلين عاشوا في بينهم أياماً طويلة وبذلوا من جهدهم وعرقهم وأفكارهم ونقاشاتهم واختلاف آرائهم ليصلوا إلى خلق الكيمياء فيما بينهم ثم يتخذوا معاً قرار موعد العرض الذي سيصبح ملكاً للجمهور، وعلى الرغم من أن دويعر لم يعارض خوض هذه التجارب في مسرح المونودراما، لكن أولاً أن يتوافر لها الشروط الأساسية لتقدم الإضافة والجديد وأهمها الممثل المتمكن من أدواته الإبداعية الذي يستطيع الرقص والغناء ويجيد الألعاب الأكروباتية وألعاب الخفّة والسيرك، ويمتلك مخزوناً هائلاً من المعرفة والتجربة في كل صنوف المسرح، لتكون الغاية من العرض تقديم خلاصة تجربة عاشها عقوداً طويلة، بالإضافة إلى أهمية الموضوع المطروح الذي يجب أن يحقّق شرط المونودراما، أي لا يمكن إلا أن يقدّم من ممثل واحد لكي لا تصبح غاية العرض الاستعراض الفردي.

وإذا كان المسرح أبو الفنون ولا يمكن أن يستمر ويزدهر ويبقى إلا بالغيرية والإيثار والإيمان بالعمل الجماعي، فجوهره وغايته الإنسان بعكس المونودراما التي تعكس واقع استلاب الفرد وذوبان ذاته في مجتمع قطيعي غير منسجم مع طموحه وتطلعاته، ما يسفر عن إحساسه بالغربة عن هذا الوسط، نتيجة لتغول ظروف الواقع المادي، صورته المونودراما كتطلع لخلاص فردي بعدما انتشر وساد بالأدب الحديث عن أفكار عزلة الفرد وهمومه الفردية بعدما فشلت المشاريع الجمعية في ترميم الخواء الداخلي له، وفشلت بتحقيق استقراره وتعزيز إحساسه بالأمان، على العكس تماماً، إذ تضاعف شعوره بالخوف من المجهول، فالمونودراما تنقل الصراع من العام إلى الخاص، ومن المجموع إلى الذات ومن الخارج إلى الداخل، فالفرد صورة مصغرة عن العالم.

وعلى الرغم من أن المونودراما من النماذج التجديدية والحداثية في فنون المسرح التي اشتغلت على تقويض ثوابت وعناصر متعارف عليها، ودرج عليها العرض المسرحي باعتماد نقص افتراضي فيها؛ لكن ماذا بعد؟ ما هو أفق هذا التجديد الذي اقتصر على ممثل وحيد؟.

يقول المخرج سمير البدعيش إنه على الرغم من أن لهذا النوع من الفن خصوصيته التي تتطلّب جهداً كبيراً من طاقم عمل هكذا نوع، والجهد الأكبر يقع على عاتق الممثل أولاً، ليأتي المخرج ويهندس بناء العرض، فالممثل في المونودراما يجب أن يكون ذا خبرة عالية جداً وممارساً للتمثيل كثيراً وله تجارب عديدة ليستطيع خوض عرض المونودراما، إذ عليه تجسيد شخصيات عدّة بعرض واحد، منتقلاً من حسّه هو كشخصية إلى أحاسيس ومشاعر الشخصيات التي يستحضرها أيضاً، فهناك جهد جسدي إذا لم يكن الممثل يتقن الجسد ولغته سيواجه صعوبة في التنفيذ.

وحول مستقبل هذا النوع من المسرح، وفق البدعيش، فهو خاضع لثالوث رأسه النص والمادة المقدمة، وبقدر ما كان فيها قيمة فكرية وغنى للشخصية من خلال الشخصيات التي سيجسدها، بالإضافة إلى فرجة مسرحية، بحيث يحقق العرض الشرط الأساس للمسرح، سواء أكان عرضاً كاملاً بممثليه أم ممثلاً واحداً في المونودراما شرط تحقيق المتعة والفائدة، وهذا لن يتحقق إلا بوجود مادة دسمة وممثل بارع جداً ومهندس عرض جيد هو المخرج، بالإضافة إلى متمّمات العرض من ديكور وإضاءة وموسيقا.

ويشير البدعيش إلى أن مستقبل هذا النوع مرهون بالتجارب، فكلما ازدادت التجارب كلما فرزت نوعاً، طبعاً مع الدعم المادي قبل المعنوي من الجهات التي تُعنى بالشأن الثقافي والمسرحي حصراً، دعم ماديّ يوازي الجهد الذي يبذله من يعمل في المسرح بشكل عام، لأننا على مدار أربعين عاماً “شبعنا دعماً معنوياً وكراتين وشهادات تقدير”، أيضاً يجب أن يكون هناك مهرجان سنوي للمونودراما في كل المحافظات السورية، مدعوماً من وزارة الثقافة ومديرية المسارح من خلال هذا المهرجان ومع مرور الزمن يفرز عروضاً جيدة وتستفيد منه الفرق المشاركة مع استضافة بعض العروض الجيدة من محافظات أخرى للاطلاع على تجارب الآخرين، لكن كل هذا مرهون بالدعم.