العروبة كهويةٍ… والحاجة إلى إعادة إنتاج مفهومٍ معاصرٍ للقومية العربية
الدكتور سومر منير صالح
إنّ مشاعر الانتماء للجماعة قديمةٌ قدم التجمع البشريّ، ولكنّها ليست ولاءً قومياً بالمعنى المعاصر للمصطلح، فالقومية مصطلحياً هيّ شكلٌ من أشكال الحداثة المتأخرة، تهدف لتجاوز المجتمع الأوليّ إلى نطاقٍ أكثر حداثةً وإنسانيةً، والمقصود هنا بالمجتمع الأوليّ، التزام الأفراد بثقافتهم وهويتهم الخاصة بشكلٍ منغلقٍ.
تاريخياً تم ذكر القومية كمصطلحٍ لأول مرةٍ في جامعة لايبزيغ 1409، وظهرت أول مظاهر القومية في إنكلترا خلال الثورة البيوريتانية (التطهيرية) في منتصف القرن السابع عشر 1642، وترسخت بحلول القرن التاسع عشر.
ورغم أهمية الثورة البريطانية، عادةً ما يُنظر إلى الثورة الفرنسية (1789) باعتبارها نقطة الانطلاق.
يُستخدم المصطلح بمعنيين مترابطين: في الاستخدام الأول، تسعى القومية إلى تحديد كيانٍ سلوكيٍّ (الأمة) ومن ثم متابعة أهدافٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ نيابةً عنها، في الاستخدام الثاني، القومية هيّ شعور بالولاء تجاه الأمة يتقاسمه الناس، بالعموم القومية هيّ أيديولوجيةٌ تؤكد على تطابق الوحدة السياسية والوطنية، تهدف إلى بناء هويةٍ واحدةٍ والحفاظ عليها، بناءً على مجموعةٍ من الخصائص الاجتماعية المشتركة مثل الثقافة والعرق واللغة والدين والتقاليد والتاريخ المشترك، وأنّ الأمة هيّ الأساس الطبيعي للدولة، انطلاقاً من ذلك لا يمكن فصل التكوين القوميّ عن تكوين الأمة ذاتها، ولفهم ما هيّ القومية، فلابدّ أن نفهم ماهيّ الأمة، وظروف تشكّلها، وهنا يظهر معنا اتجاهين رئيسين في فهم (الأمة- القومية): الأول (تقليدي-اثني) ينظر إلى الأمم على أنّها مبنيةٌ اجتماعياً ومشروطةٌ تاريخياً، وعليه القومية هيّ نتاجٌ للرموز والأساطير والتقاليد التي تستنهض مشاعر الولاء، في هذا الاتجاه تصور الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) القومية كشكلٍ من أشكال “Volksgeist الروح الشعبية”، وهيّ روحٌ فريدةٌ من نوعها لأمةٍ عرقيةٍ متجذرةٍ في شخصياتها التاريخية، حيث يرتبط الشعب الأصيل بإقليمٍ وتاريخٍ وثقافةٍ معينة.
أمّا الاتجاه الثاني (للقومية- الأمة) فهو (حداثيّ) يحيل المفهوم إلى القومية المدنية، ويربط الأمة بفكرة المجتمع والسيادة الشعبية، وهنا نعود إلى نقطة البدء في المصطلح وهي القومية الإنكليزية في القرن السابع عشر، كما تم التعبير عنها في فلسفة العقد الاجتماعيّ السياسية لـ”جون لوك”، والتي طوّرها لاحقاً جان جاك روسو، في هذا الاتجاه يعرّف بنديكت أندرسون الأمة بأنّها “مجتمعٌ سياسيٌّ متخيلٌ ثقافياً باعتباره محدوداً بطبيعته وذات سيادة”، هذا التعريف يتبنى نظرية التحديث، ويقترح أنّ القومية نشأت بسبب التحديث، التصنيع والتعليم، والتي جعلت الوعي الوطني ممكنًا، يصف أنصار هذه النظرية القومية بأنّها “تقليدٌ مخترعٌ” توفر مشاعر مشتركةٍ تعدّ من أشكال الهوية الجماعية التي توفر تضامناً سياسياً، وعلى اعتبار أنّ الأمم تخضع لإعادة التصور والبناء دائماً، يقترح عالم الاجتماع روجرز بروبكر أنّه بدلاً من التركيز على الأمم كمجموعاتٍ ثابتةٍ، يمكن بلوغها من خلال بناء الإدراك، وتنظيم الخطاب السياسي، وبناءً عليه القومية منتجٌ إدراكيٌّ يتم بناؤه، ومنها النموذج الأميركيّ معاصراً.
بالانتقال إلى القومية العربية فهيّ لم تنشأ بظروفٍ طبيعيةٍ كما نشأت غربياً، فثنائية (القومية الأمة) كانت تتطور في الغرب مع رسوخ الدولة وأركانها وأدواتها وتطور اقتصادها، بينما عربياً نشأت الفكرة القومية في سبيل التحرر من استعمار الدولة العثمانية، ولاحقاً الاستعمار الغربي، وكان من روادها اليازجي، البستاني، نجيب عازوري، قسطنطين زريق، ساطع الحصري، زكي الأرسوزي، وفي سبيل المواجهة مع الاستعمار كان لا بدّ من استنهاض المشترك في المجتمعات العربية، فكانت فكرة العروبة الناتجة عن تراثٍ مشتركٍ من اللغة والثقافة والتاريخ، إضافةً إلى مبدأ حرية الأديان، ولأنّها نشأت في مواجهة آخرٍ اتخذت طابعاً أيديولوجياً، فنشأت القومية العربية أيديولوجيةً بطبيعتها، هوياتيةً في مضمونها (العروبة)، تهدف لتحقيق الدولة العربية.
هنا كان فهم القومية العربية أقرب إلى الكلاسيكي (Volksgeist) والذي يستدعي الروح الشعبية والأمجاد العربية لاستنهاض المجتمعات للمواجهة، يقول ساطع الحصري (إنّي أعتقد أنَّ أوَّلَ ما يجب عمله لتحقيق الوحدة العربية، وهو إيقاظ الشعور بالقومية، وبثّ الإيمان بوحدة هذه الأمة)، بعد تحقيق الاستقلال في أغلب الدول العربية كان المدّ القوميّ في ذروته، منادياً بدولةٍ اندماجيةٍ، وهنا كانت بداية التعثر الحقيقي في تبلور المصطلح لأنّ القوميين العرب أغفلوا حقيقتين في بناء الفكرة القومية بشكلٍ موضوعيٍ وهما استكمال بناء مفهومي: (الدولة، والأمة) بشكلٍ عقلانيّ، فالدولة القطرية ذاتها لم تنشأ بشكلٍ عقلانيّ، فلا عقدٌ اجتماعيٌّ واضحٌ نشأت عليه، ولا بنى دستوريةً مكتملةً الوظائف، ولا هويةٌ وطنيةٌ جامعةٌ مستقرة، كما لعبت الكثير من العوامل الخارجية والداخلية دوراً في أزمة الدولة العربية المعاصرة، فكانت عائقاً أمام التشكّل الحداثي للقومية وانتقالها إلى فكرٍ موضوعيٍّ جامعٍ قائمٍ على المساواة والتسامح قادرةً على صهر جميع الأقليات والهويات في بوتقةٍ واحدة.
من جهةٍ أخرى بقي مفهوم الأمة العربية تراثياً لم يطرأ عليه التجديد من ناحية العقد الاجتماعي، المواطنة، وعلاقة المجتمع بالدولة، فكان مفهوماً فوقياً غير قابل للمساس، أعاق بناء المجتمع السياسيّ العربي..، هنا أصبحت القومية كمفهومٍ أيديولوجيٍ أكثر تصلباً في مقابل العروبة القادرة على الاحتواء المجتمعي، ولأنّ القومية العربية بحكم تشكيلها العاطفي كما بدى في النصف الأول من القرن العشرين بمضامينه الشعبية والعاطفية والرمزية، سرعان ما اصطدمت مقولاتها مع نتائجه، والتي مثّلت ذروته نكسة حزيران العام 1967، ليبدأ الخطاب القوميّ جولة صراعٍ جديدةٍ مع الخطاب الإسلاموي المتمدد مع تقلص الخطاب القومي، بعد أن خاض الخطاب القوميّ لعقودٍ ثلاثة قبلها صراعاً مع قوىً خارجيةً أرادت تدمير فكرة القومية العربية والدفع نحو الاتجاه الإقليميّ و ما دون.
بالمجمل نشأت الحركة القومية العربية كمشروعٍ سياسٍّي بمضامين رئيسةٍ ثلاث: الأمة العربية، والعروبة، واكتسب تدريجياً دلالةً يساريةً، داعيةً إلى إنشاء وحدةٍ عربيةٍ ثورية، فالقوميون العرب يعتقدون أنّ الأمة العربية كانت موجودةً ككيانٍ تاريخيٍّ قبل ظهور مصطلح القومية، تشكلت من خلال التأسيس التدريجيّ للغة العربية ومع ظهور الإسلام كدينٍ، أصبحت العروبة والإسلام من ركائز هذه الأمة.
ما تحتاجه القومية العربية راهناً هو إعادة إنتاج ذاتها وفق ظروفها وواقعها، وفي إطار تجاربها السابقة، فالوحدة الاندماجية أصبحت صعبةً، والاشتراكية باتت في طور المراجعة نحو العدالة الاجتماعية، فاليوم نحن بحاجةٍ إلى قوميةٍ ثقافيةٍ حضاريةٍ إنسانيةٍ، تتسع للمجتمع العربيّ بتنوعه، وليس للأمة التي يثير مجرد طرح المفهوم إشكالياتٍ مجتمعيةٍ مع مكونات تعيش معه وفي ظلّه، فالمجتمع العربيّ هو عربيٌّ بثقافته وبلغته وليس بعرقه، بهذا المعنى تصبح العروبة هي الحاجة الموضوعية العربية، والمعبّر الموضوعي عن القومية المعاصرة، والفصل بين السياسي والثقافي الحضاري في مفهوم القومية ليس تخلٍ عن أيديولوجيا، بل مقاربةٌ لها من زاوية الواقع، ومنطق الديمومة، وإذا كانت الوحدة الاندماجية صعبةً، فالوحدة الثقافية قابلةٌ للتحقيق دون أن تثير من الإشكاليات السياسية ما أثارته القومية كحركةٍ، وما تحتاجه العروبة لتجاوز أزمات القومية كما ظهرت في منتصف القرن الماضي هو ربطها بمشروعٍ ثقافيِّ اقتصاديِّ يعطي للإنسان العربي القيمة العليا، يستكمل بناء الدولة القطرية العربية على أسسٍ عقلانيةٍ تكون حافزاً للمواطن العربي نحو النهوض والبناء، فالقومية في النهاية حركة نهضةٍ وتحررٍ.
ما نحن بحاجة إليه راهناً هو بناء أدوات المشروع القوميّ وأولها الإنسان العربيّ الواعي لذاته ولأمته، والمتحرر من التخلف والتبعية والهيمنة، وبهذا المعنى تكون العروبة المدفوعة بمشروعٍ ثقافيٍّ اقتصاديٍّ قابلة للتطبيق، وتصحيحٌ معاصرٌ لقوميةٍ سياسيةٍ مشحونةٍ بخطابٍ عاطفي، وتفكيرٌ موضوعيٌّ منطلقٌ من واقع، لا تفكيرٌ أيديولوجيٌّ منطلقٌ من مواجهة، وعلى اعتبار أنّ الثقافة العربية ليست مكوناتٍ ثابتةٍ ساكنةٍ جامدةٍ بل هيّ متطورةٌ باستمرار، مرنةٌ منفتحةٌ متحولةٌ نتيجة لتغير الأحوال، الأمر الذي ينعكس على العروبة التي تصبح مرنةً منفتحةً متطورةً لم تكتمل في حقبةٍ زمنيةٍ معينةٍ بل هيّ في تطورٍ دائم، لا يجوز معها قولبتها بإطار ٍأيديولوجيّ جامدٍ يقيدها.