“قناع بلون السماء” صيغة حداثية لأدب المعتقلات الإسرائيلية
أمينة عباس
شكَّل فوزُ الكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، مؤخرا،ً بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” لعام 2024 عن روايته “قناع بلون السماء” حدثاً استثنائياً في الأوساط الثقافية لا لأنها أوّل رواية عربية تتوّج بجائزة كتبها أسير قابع في سجون الاحتلال منذ عشرين عاماً وحسب، إنما لكون كاتبها قدّم فيها صيغة حداثية لأدب السجون، مبتعداً عن كتابة اليوميات واستدرار التعاطف، ومنشغلاً بما هو خارج جدران السجن.. من هنا كانت هذه الرواية محور الندوة التي أقامتها، مؤخرا،ً أكاديمية الثقافة بالمركز الثقافي العربي في “أبو رمانة”، وشارك فيها السياسي أبو علي حسن، والدكتور ثائر عودة، والناقد أحمد هلال، والدكتور حسن حميد الذي يقول: “هذه الرواية كُتبت في السجن الإسرائيلي لتقول إن الحياة ظلمة وعتمة وعذاب ونار كاوية في ظل الظلم الإسرائيلي، لا في سجونه وحسب، إنما في مواجهته أيضاً، وهي رواية بحث تستند إلى مرتكزات عدة، منها التاريخ والآثار والأفكار والعقائد وما يرويه العقل الجمعي عن الأمكنة والأزمنة، وهي كذلك حكاية اجتماع الأسئلة والهواجس والمخاوف والآمال الدائرة ما بين “أم عدلي” وابنها “مراد” السجين المحكوم عليه بثلاثة مؤبدات، وحكاية المعطف القديم الذي اشتراه “نور” بطل الرواية من دكان الملابس العتيقة في السوق والهوية الزرقاء الإسرائيلية التي وجدها في جيب المعطف باسم “اور شابيرا” والتي ستصبح قناعاً له يخوّله إنشاء علاقات مع الإسرائيليين واجتياز نقاط المراقبة والحواجز ودخول جميع الأماكن والمؤسسات وحضور الندوات والمحاضرات”.
ويضيف حميد: “رواية صعبة وتحتاج إلى جهد للإحاطة بما فيها من أمكنة وأزمنة وحوارات وغايات وأحلام، لأنها أرادت أن تكون رواية بحث وجدل وعصف لتاريخ عمره قرن من الزمان تناهبته مفاعيل القوة التي طمست ومحت وغيَّبت حقائق تاريخية واجتماعية وثقافية وعقائدية من أجل أن تظل حمى القوة متسيدة، وهي رواية كتابتها أسهل من قراءتها لأن شراكها وأفخاخها كثيرة، ولأنها رواية حيرة وأسئلة وغموض”.
ولا يعدّ الناقد د.ثائر عودة الرواية من روايات أدب السجون “لأن صاحبها تحرر من عذابات السجن ويومياته ومن كل ما يحيط به من حديد وعتمة ووحشة، وخرج بعيداً عن جدرانه إلى فضاء رواية تخففت من السجن وقضبانه وأسلاكه الشائكة، فأن يكتب الأديب الأسير عن فظائع سجنه لهو لأمر طبيعي ومطلوب، وهذا يندرج تحت باب الكتابات في الأسر، لكن خندقجي يقدم عملاً يخترق جدران السجن، وهو وإن لم يقدم للحركة الأسيرة على المدى المنظور والمتوسط رصداً لمعاناتها، لكنه يختزن من الإبداع الأدبي ما جعل كاتبها الأسير ينال جائزته عن رواية تدور أحداثها في أقل من شهر وقد امتلأ بارتدادات زمنية عميقة ضمن فضاء روائي كشف عن مقدرة معمارية هائلة في رسم خارطة الأمكنة والفضاءات التي وردت فيها، وهي التي تحفل بالمعلومات الكثيرة التي قد تكون غائبة عن الكثيرين، وليس من السهل استخدام كل تلك المعلومات التاريخية والسياسية والدينية في عمل أدبي والتي قد تودي به إلى خارج طريقها الفني، لكن الأسلوب المبتكر والمغامرة في تجريب صيغ سردية جديدة أنقذها من براثن الخروج عن الفن، فنسج حكاياته بصنارة الهوية تارة والتاريخ تارة أخرى والواقع الراهن بعدها، وجمع كل ما اصطاده ليصنع حصيرة يمدّ عليها أدوات سرده ويعرفها في وعيه لتكون رواية مواكبة لبناء الرواية الحديثة وأشكال التجديد التي طرأت على سيرورتها كالأصوات المتعددة من راوٍ عليم إلى رواية تاريخ إلى حبكة وسرد مشوقين بلغة زاخرة بالإشراقات الجمالية والشاعرية”.
وبعد بحثه في تفاصيل الرواية والوقوف عند بعضها مطولاً، يحدثنا الناقد أحمد علي هلال قائلاً: “هي رواية تجريببية، تحيلنا إلى نوع من مغامرة سردية متقدمة على مستوى مضمونها وشكلها الفني وثيماتها الرئيسة، لكنها في المقابل تمثقل هاجس الروائي الفلسطيني المثقف في إنشاء السردية المضادة لسردية الاحتلال وهي سردية الوعي الفلسطيني الذي يتجاوز زمن الاحتلال نحو أفق إنساني تحرري يتوق للعدل والحرية والانعتاق ورواية الأسئلة القلقة ليست لها إجابات نهائية، وعلى صعيد شكلها الفني هي رواية مركّبة بامتياز، وتمثل ذروة تجارب خندقجي الروائية الذي ابتدأها بـ “مسك الكفاية” و”سيدة الظلال المرة” و”نرجس العزلة” و”خسوف بدر الدين”، ويبقى سؤال الهوية لا ينفكّ الروائي عن امتحانه طيلة الأحداث فيتحرك أبطاله على مسرحها ضمن هذا السؤال من دون أن تتخفف من شعريتها المقتصدة والمكثفة على نحو يمكّن القارئ من الدخول إليها قبل عام من النكبة إلى ما قبل الميلاد ليقصّ علينا كاتبها السردية الأصلية المهمشة لفلسطين المطمورة تحت التراب بكل تاريخها، وذلك هو خطاب الرواية في ختام مقولاتها وتضافر عناصرها الفنية”.
ويصف أبو علي حسن الرواية قائلاً: “هي رواية تخترق القضبان إلى فضاء أوسع، مغادرة عتمة السجون، وكُتبت بين جدران الزنازين الصهيونية بقلم فلسطيني وردي الرؤية وهو الذي لم يزل يقبع في زنازين الاحتلال أسيراً فلسطيني الهوية والموقف ومثقفاً ممتلئاً بوطنيته، ذا إدراكات فكرية وسياسية عميقة التحليل والرؤية، ويبحث من خلال روايته عن الوجود والهوية عبر أسرار الأرض التي يعشقها بما تخفيه من آثار وتاريخ، مطلقاً العنان لمشوار فلسطيني متخيل لا ينفصل عن الواقع بقدر ما هو تجسيد له، يعاينه ويبحث عن المسكوت عنه للوصول إلى الحقيقة المطلقة المطمورة لإثبات الوجود، باحثاً كذلك في تفاصيل الكولونيالية الصهيونية ومواجهتها لإثبات الهوية والوجود، وهي وإن كانت رواية متخيلة في أحداثها ومجرياتها وحواراتها، لكنها جدل في الواقع الفلسطيني بمستوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والكفاحية، وتجيب على أسئلة الواقع السياسية وراهنيته في رحلة بحث ضمن فضاء معقد أدواتها تخيلية وفكرية وسياسية ووطنية وتاريخية ونفسيه عن حقيقة وطنية تاريخية أريد لها الاختفاء من التاريخ، عبر مصادرة الأرض والتاريخ معاً وهي بذلك رواية كفاح وتضحية ووعي وموقف وثقافة”.
يذكر أن باسم خندقجي ولد عام 1983 ودرس في مدارس محافظة نابلس، والتحق بجامعة النجاح الوطنية للدراسة في قسم الصحافة والإعلام، واعتُقِل عام 2004 عندما كان في سنته الجامعية الأخيرة على يد قوات الاحتلال، وحُكِم عليه في عام 2005 بثلاثة مؤبّدات، وبدأ رحلة الكتابة داخل السجن من خلال كتابته “مسودات عاشق وطن”، ومن دواوينه الشعرية “طقوس المرّة الأولى” و”أنفاس قصيدة ليلية”، وصدرت له ست روايات، منها “مسك الكفاية.. سيرة سيدة الظلال الحرة” و”نرجس العزلة”، ورواية “خسوف بدر الدين” الصادرة عام 2018، و”القناع” هي الرواية الأولى من مشروعه “ثلاثية المرايا” وتضم “سادن المحرقة” التي انتهى من كتابتها، و”شياطين مريم الجليلية” الجزء الثالث والأخير والذي يعكف على إعداده حالياً.